(وَمِنَ اٰيَٰتِهِۦ يُرِيكُمُ اُ۬لْبَرْقَ خَوْفاٗ وَطَمَعاٗ وَيُنَزِّلُ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ مَآءٗ فَيُحْيِۦ بِهِ اِ۬لَارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآۖ إِنَّ فِے ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوْمٖ يَعْقِلُونَۖ) [الروم،24]،
آية 24 من سورة الروم، مشهد كوني يجمع فلسفة الإحياء بأبعادها المادية والمعنوية. فكما يحيي الله عز وجل الأرض بعد موتها، يتجلى الإحياء في دورة العمران البشري، وصولاً إلى البعث والنشور. هذه الرحلة في فهم سنن الإحياء تبدأ من مشهد البرق الذي يثير في النفوس مشاعر متباينة من الخوف والطمع والأمل.
الكون الحي : رؤية قرآنية متكاملة
يقدم سيد قطب رحمه الله فهماً عميقاً لحيوية الكون في تفسيره، حيث يقول: "والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حي، يحيا ويموت. وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم. فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة، مطيعة لربها خاضعة خاشعة، ملبية لأمره مسبحة عابدة. والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين"
علاقةٍ جديدة بين الإنسان والطبيعة من حوله، علاقةٍ قائمة على الوعي والتفاعل والتدبر، والتقارب في العمران والإحياء.
ما يميز تفسير سيد قطب هو ربطه بين الحياة المادية والروحية في الكون. فعندما يصف الكون بأنه "خليقة حية متعاطفة متجاوبة"، فإنه يؤسس لفهم عميق يتجاوز النظرة المادية البحتة للكون. هذا الفهم يؤدي إلى إحياء الوعي الإنساني بمسؤوليته تجاه الكون، وهو ما نحتاجه بشدة في عصرنا الحالي الذي يعاني من أزمات بيئية خطيرة.
سنن التغيير في نظم القرآن
يكشف البقاعي رحمه الله عن دقة المنهج القرآني في عرض سنن التغيير، إذ يقول: "ولما ختم بالسمع آية جمعت آيات الأنفس والآفاق لكونها نشأت من أحوال البشر والخافقين، افتتح بالرؤية آية أخرى جامعة لهما لكونها ناشئة عنهما مع كونها أدل على المقصود جامعة بين الترغيب والترهيب... ولما كان لمعان البرق جديراً بالتماع البصر عند أول رؤية، وكان يتجدد في حين دون حين، عبر بالمضارع حاذفاً الدال على إرادة المصدر للدلالة على التجدد المعجب منه".
هذا التجدد في ظاهرة البرق يؤسس لفهم سنن التغيير في المجتمعات والحضارات، إذ تتجدد فرص النهضة والإصلاح في أوقات مختلفة وبكيفيات متنوعة.
يلفت البقاعي النظر إلى دقة التعبير القرآني في استخدام الفعل المضارع للدلالة على تجدد ظاهرة البرق. وهذا يؤسس لفهم مهم: أن فرص الإصلاح والتغيير متجددة دائماً، تماماً كتجدد البرق. لكن الأهم هو الاستعداد النفسي والفكري لاغتنام هذه الفرص.
العقل المستقيم: شرط الانتفاع بالآيات
يضع ابن عاشور رحمه الله شروطاً دقيقة للانتفاع بهذه الآيات، فيقول: "وجعلت هذه الآية آيات لانطوائها على دقائق عظيمة في خلق القوى التي هي أسباب البرق ونزول المطر وخروج النبات من الأرض بعد جفافها وموتها. ونيط الانتفاع بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل لأن العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كافٍ في فهم ما في تلك المذكورات من الدلائل والحكم".
وهذا يؤسس لمنهجية علمية رصينة في التفكير والبحث، تتجاوز العوائق النفسية والفكرية التي تمنع الإنسان من رؤية الحقائق بوضوح.
منهجية التفكر والتعقل
يؤسس الشعراوي رحمه الله لمنهجية التفكر في قوله: "وحين يقول سبحانه: يعقلون يتفكرون يعلمون، حين يدعوك للتدبر والعظة إنما ينبه فيك أدوات المعارضة لتتأكد، والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج".
يميز الشعراوي بين مستويات الإدراك المعرفي (يعقلون، يتفكرون، يعلمون)، مما يؤسس لمنهجية معرفية متكاملة تجمع بين العقل والتفكر والعلم. هذا التمييز مهم جداً في بناء منهجية معرفية متوازنة.
مرجعية المعرفة والفهم
يضع الطبري رحمه الله المفتاح الأساسي لفهم عملية التعقل في قوله: "يَعْقِلُونَ عن الله حججه وأدلته". ويكمله الماتريدي رحمه الله بقوله: "ينتفعون بعقولهم، أو لقوم يعقلون لو تدبروا، وتفكروا".
يكمل كل منهما الآخر في فهم عملية التعقل: فالطبري يؤكد على مرجعية الوحي ("عن الله حججه")، والماتريدي يؤكد على دور الإنسان في تفعيل عقله ("ينتفعون بعقولهم"). وهذا التكامل بين الوحي والعقل هو أساس المنهجية الإسلامية في المعرفة.
من التأمل إلى النهضة
في ضوء هذه الرؤية المتكاملة التي قدمها المفسرون، تتجلى ثلاثة مستويات للإحياء:
1. الإحياء المادي:
يتمثل في دورة الحياة الطبيعية، من البرق إلى المطر إلى إحياء الأرض. وهو نموذج حي لقدرة الله عز وجل على الإحياء.
2. الإحياء الحضاري:
يتجلى في إمكانية النهضة والتجديد في حياة الأمم والمجتمعات، مع التأكيد على شروطه من:
ـ العقل المستقيم (ابن عاشور)
ـ التدبر والتفكر (الماتريدي)
ـ فهم السنن الإلهية (الطبري)
3. الإحياء الأخروي:
يتمثل في البعث والنشور، وهو الغاية التي تربط المستويين السابقين بمصيرهما الأخير.
نحو عمران راشد
تؤسس آية البرق لرؤية حضارية متكاملة تربط بين مستويات الإحياء الثلاثة. وهي تقدم للناهض بأمته درساً عميقاً في فهم سنن التغيير والإصلاح، مؤكدة أن طريق النهضة يبدأ بالتأمل في آيات الله، ويمر عبر العقل المستقيم المتدبر، وصولاً إلى العمل المثمر المؤسس على فهم السنن الإلهية في الكون والمجتمع.
كتب حسان الحميني والله الموفق