(يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ اَ۬للَّهِ وَلَا اَ۬لشَّهْرَ اَ۬لْحَرَامَ وَلَا اَ۬لْهَدْيَ وَلَا اَ۬لْقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ اَ۬لْبَيْتَ اَ۬لْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاٗ مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰناٗۖ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ اَن صَدُّوكُمْ عَنِ اِ۬لْمَسْجِدِ اِ۬لْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْۖ وَتَعَاوَنُواْ عَلَي اَ۬لْبِرِّ وَالتَّقْو۪يٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَي اَ۬لِاثْمِ وَالْعُدْوَٰنِۖ وَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ شَدِيدُ اُ۬لْعِقَابِۖ) (3)
يقف الناهض اليوم أمام تحديات جسيمة تتطلب منه فهماً عميقاً لسنن النهضة وأسسها، وفي القرآن الكريم تتجلى هذه الأسس بوضوح، لا سيما في سورة المائدة التي تؤسس لمفهوم العقود والوفاء بها. وتأتي الآية الثالثة من هذه السورة لترسم معالم طريق النهضة من خلال مفهوم التعاون المؤسسي المنضبط.
شمولية مفهوم التعاون
من الفهم الشائع للآية أنها تدعو للعمل الجماعي، لكن المتأمل يجد أن مفهوم "التعاون" أوسع وأشمل من ذلك بكثير. فالآية تؤسس لمبدأ التعاون الذي يشمل كل أشكال النشاط المشترك بين الناس، من العمل اللحظي العابر إلى العمل المستدام طويل المدى، ومن التعاون العفوي البسيط إلى العمل المؤسسي المنظم. فكلمة "تعاونوا" في الآية تحمل من المعاني والتطبيقات ما لا يمكن حصرها، لتشمل كل ما يمكن أن يبتكره الإنسان من أشكال التعاون في كل زمان ومكان.
أسس التعاون النهضوي
إن المتأمل في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ يجد أنها تؤسس لمنهج متكامل في العمل النهضوي. فالبر، كما يبين ابن عطية، "يتناول الواجب والمندوب إليه"، مما يؤسس لمراتب العمل النهضوي من الضروري إلى التحسيني. أما التقوى فهي، كما يشير، "رعاية الواجب"، مما يضع الضوابط الأساسية للعمل المؤسسي.
من الفردي إلى المؤسسي
تواجه النهضة تحدياً أساسياً في تحويل المبادرات الفردية نحو عمل مؤسسي مستدام. وهنا يأتي فهم البقاعي للآية ليضيء الطريق، حيث يبين أن التعاون يأتي لأن "الانتهاء عن الحظوظ شديد على النفوس"، مما يستدعي العمل الجماعي المنظم. فالمؤسسية ليست ترفاً، بل ضرورة لاستدامة العمل النهضوي وتطوره.
شمولية النظرة النهضوية
يوسع حسين فضل الله النظرة للشعائر لتشمل "كل حرمات الله ومعالم أمره ونهيه"، مؤكداً أن قيمتها ليست في ذاتها بل في "المعاني التي ترمز إليها والأعمال التي تؤدى فيها". وهذا يؤسس لنظرة شمولية للعمل النهضوي تتجاوز الشكليات إلى المقاصد والغايات.
تجاوز العداوات
ويأتي ابن عاشور ليؤصل لمبدأ مهم في العمل النهضوي، وهو تجاوز العداوات والخلافات في سبيل تحقيق المصلحة العامة. فالتعاون على البر، كما يبين، "يكسب محبة تحصيله"، حتى مع المخالفين، "فلعل تكرر فعله يقربهم". وهذا درس مهم في توسيع دائرة العمل المؤسسي ليشمل كل من يسعى للخير.
الأبعاد الاجتماعية للنهضة
وبرز المراغي البعد الاجتماعي للتعاون، في تأصيل عميق يجعله "من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن"، حيث "يوجب على الناس أن يعين بعضهم بعضاً على كل ما ينفع الناس أفراداً وجماعات في دينهم ودنياهم". وهذا التأصيل الاجتماعي يفتح الباب لفهم أوسع لمستويات التعاون وأبعاده المختلفة.
مستويات التعاون
إن شمولية مفهوم التعاون في الآية تتجلى أيضاً في تعدد مستوياته وأشكاله. فالتعاون لا يقتصر على العلاقة بين الأفراد فحسب، بل يمتد ليشمل التعاون بين المجموعات المختلفة، وبين المؤسسات في ما بينها، وبين الأفراد والمؤسسات. وهذا الفهم الواسع يتجاوز الرؤية الضيقة التي تحصر التعاون في إطار الوحدة القسرية بين الجماعات والتنظيمات. فالتعاون المنشود هو الذي يحترم التنوع والتعدد، ويسمح بتضافر الجهود مع الحفاظ على الخصوصيات والهويات المختلفة. وبهذا يصبح التعاون جسراً للتكامل لا سبيلاً للذوبان، وطريقاً للتنسيق لا وسيلة للإلغاء والاستيعاب.
خاتمة: معالم على الطريق
فعلى الناهض اليوم أن يدرك أن طريق النهضة يمر عبر تحويل المبادرات الفردية إلى عمل جماعي منظم، ثم إلى عمل مؤسسي مستدام. عليه أن يتجاوز العداوات والخلافات في سبيل المصلحة العامة، وأن يوسع دائرة التعاون لتشمل كل من يسعى للخير. يدرك أن المؤسسية لا تلغي الفردية الإيجابية، بل تنظمها وتوجهها نحو الأهداف المشتركة، مع الحفاظ على روح المبادرة والإبداع. فالتعاون المؤسسي المنضبط بالقيم والمقاصد هو السبيل لنهضة حقيقية مستدامة.
كتب حسان الحميني
والله الموفق.