استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

المبادرة (منهج الناهضين في خدمة المجتمع)


(فَسَق۪يٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلّ۪يٰٓ إِلَي اَ۬لظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّے لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٖ فَقِيرٞۖ) [ القصص،24]،

تمثل المبادرة حجر الأساس في بناء المجتمعات الناهضة، وقد قدم لنا القرآن الكريم نموذجاً متكاملاً في قصة موسى عليه السلام. من خلال هذا النموذج المضيء، يكشف لنا المفسرون عن منهج شامل للمبادرة الناهضة، منهج يتجاوز الفعل العابر إلى مشروع نهضوي متكامل يجمع بين الفعل والأثر، الجهد والغاية، الحركة والبركة.

 القوة والعزيمة : أساس المبادرة

يكشف الإمام الرازي عن عمق دلالة القوة في المبادرة حين يقول: "فيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر، وفيه دلالة أيضا على كمال قوة موسى عليه السلام". تبرز هذه القوة في بُعدين متكاملين؛ فالقوة البدنية تمكن المبادر من تحمل المشقة والتعب، ومواصلة العمل في الظروف الصعبة، والثبات رغم العوائق المادية. أما القوة المعنوية فتتجلى في الصبر الذي لا ينفد، والعزيمة التي لا تلين، والإرادة التي تتجاوز كل العقبات. وحين تجتمع القوتان، تصبح المبادرة فعلاً مؤثراً يترك بصمته في واقع المجتمع.

البصيرة الاجتماعية والفطنة

يؤصل البقاعي لعمق البصيرة في المبادرة بقوله: "لما علم ضرورتهما، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف". هذه البصيرة تتجلى في قدرة المبادر على قراءة واقعه المجتمعي قراءة عميقة، فلا يقف عند ظواهر الأمور، بل يغوص إلى جوهرها. إنه يدرك احتياجات مجتمعه الحقيقية، ويميز بين ما هو ملح وما يمكن تأجيله. هذا الفهم العميق يقترن بذكاء اجتماعي يمكنه من التعامل مع مختلف الشرائح والفئات، فيختار لكل موقف ما يناسبه من أساليب العمل والتواصل.

 شمولية العمل وتنوعه

يؤسس القاسمي لمفهوم واسع للمبادرة حين يقول: "والخير أعم من المال أو القوة أو الطعام". هذه الشمولية تجعل المبادرة الناهضة عملاً متعدد الأبعاد، فلا تقتصر على نوع واحد من العطاء أو شكل واحد من أشكال المساعدة. إنها تتسع لكل ما يحتاجه المجتمع من خدمات وأعمال، من الدعم المادي المباشر إلى المساندة المعنوية، ومن العون الفردي إلى العمل المؤسسي المنظم. هذا التنوع في العمل يقابله تكامل في الأدوار، فالمبادر الناهض يدرك أن عمله جزء من منظومة أكبر، فيسعى للتنسيق مع المبادرات الأخرى، والتكامل مع الجهود المؤسسية، محققاً التوازن بين مختلف الاحتياجات والأولويات.

الخصائص النفسية للمبادر

يقدم سيد قطب تحليلاً عميقاً للبناء النفسي للمبادر حين يقول: "وثارت نخوة موسى -عليه السلام- وفطرته السليمة... ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف". تنبع النخوة من أعماق النفس البشرية كقوة دافعة تحرك المبادر نحو العمل الإيجابي. وهي ليست مجرد انفعال عابر، بل حالة روحية متأصلة تجعل صاحبها يتألم لألم الآخرين ويسعد لسعادتهم. وحين تمتزج هذه النخوة بالشهامة، تتحول من مجرد شعور إلى سلوك عملي يترجم الإحساس بالمسؤولية إلى عمل ملموس. هذا المزيج من النخوة والشهامة يولد غيرة صادقة على المصلحة العامة، فلا يرى المبادر نفسه منفصلاً عن مجتمعه، بل يعيش همومه ويسعى لحل مشكلاته.

استمرارية العمل وتكامله

يكشف ابن عاشور عن عمق استمرارية المبادرة حين يقول: "تذكر جميع ذلك وهو في نعمة برد الظل والراحة من التعب فجاء بجملة جامعة للشكر والثناء والدعاء". هذه الاستمرارية تتجلى في رؤية المبادر الشاملة التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل. فهو لا يرى في عمله حدثاً منفصلاً، بل حلقة في سلسلة متصلة من العطاء والبناء. يخطط لمبادراته تخطيطاً دقيقاً، يضع الأهداف ويرسم الاستراتيجيات، ويتابع النتائج ويقيمها، ثم يطور أساليبه وأدواته باستمرار.

الأبعاد الروحية للمبادرة

يبرز التفسير الأمثل البعد الروحي للمبادرة بقوله: "أجل.. إنّه متعب وجائع... وفي الوقت ذاته كان مؤدباً وإذا دعا الله فلا يقول: ربّ إنّي أريد كذا وكذا". هذا البعد الروحي يجعل المبادرة عملاً يتجاوز الأثر المادي المباشر إلى آفاق روحية أرحب. فالمبادر يرى في عمله عبادة يتقرب بها إلى الله، وفرصة لتزكية نفسه وتهذيبها. يعمل بإخلاص ويتوكل على الله، يأخذ بالأسباب ويفوض النتائج لخالقه. هذا البعد الروحي يمنح المبادرة عمقاً وديمومة، ويجعلها أداة للارتقاء الروحي والأخلاقي.

ثمار المبادرة وبركاتها

يختم التفسير الأمثل ببيان ثمار المبادرة: "خطوة نحو الله ملءُ دلو من أجل إنصاف المظلومين، فتح لموسى فصلا جديداً". هذه الثمار تتجاوز النتائج المباشرة المتوقعة إلى آفاق أرحب. فعلى المستوى المجتمعي، تعزز المبادرة روح التكافل والتعاون، وتبني جسور الثقة بين أفراد المجتمع، وتؤسس لتنمية مستدامة حقيقية. وعلى المستوى الشخصي، يحقق المبادر نمواً ذاتياً مستمراً، يكتسب خبرات ومهارات جديدة، ويحقق رضا نفسياً وروحياً عميقاً.

من المبادرة الفردية إلى العمل المؤسسي

تأتي الأحاديث النبوية لترسم لنا طريقاً واضحاً للمبادرة الناهضة. فحين يحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على المسح على رأس اليتيم، لا يقف الأمر عند اللمسة الحانية العابرة، بل يتحول في يد المبادر الناهض إلى مؤسسات متكاملة لرعاية الأيتام، تقدم لهم الحماية والتربية والتأهيل. وحين يوجهنا إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإن المبادر الناهض يرى في هذا التوجيه النبوي نواة لمؤسسات تعنى بجمال المدن وسلامة طرقها وراحة ساكنيها. وهكذا تتحول كل إشارة نبوية من عمل فردي بسيط إلى مشروع مؤسسي متكامل، يحقق التنمية المستدامة ويؤسس لنهضة شاملة. فالمبادر الناهض يقرأ في هذه التوجيهات النبوية خارطة طريق لمشاريع نهضوية كبرى، تحول العمل الخيري الفردي إلى منظومة مؤسسية متكاملة تخدم المجتمع وتحقق التنمية المستدامة.

 
تتجاوز المبادرة الناهضة إذا كونها عملاً فردياً عابراً لتصبح مشروعاً متكاملاً يجمع بين القوة والحكمة، الشمول والاستمرارية، النبل والأثر. إنها تحتاج إلى إعداد نفسي وروحي متكامل، وفهم عميق لاحتياجات المجتمع، والتزام مستمر بالعمل الإيجابي. فالناهض الحقيقي هو من يجمع بين هذه الأبعاد كلها في مبادراته، محققاً بذلك النهضة الشاملة التي تنشدها المجتمعات.




كتب حسان الحميني والله الموفق

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.