في خضم التحديات الكبرى التي تواجه مشاريع النهضة، يبرز تحدٍ خفي قد يبدو للبعض هيناً، لكنه في حقيقته يشكل عائقاً جوهرياً في طريق التقدم والتنمية. إنه "اللغو" الذي أشار إليه القرآن الكريم في وصف المؤمنين: "والذين هم عن اللغو معرضون". هذه الآية القرآنية تؤسس لمنهج متكامل في بناء الشخصية الناهضة وحماية المجتمع من آفات التراجع والانحدار.
ماهية اللغو وأبعاده
يقدم الزمخشري تعريفاً جامعاً للغو في تفسيره بقوله: "اللغو: ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه". ويؤكد ابن عطية شمولية هذا المفهوم بقوله : "واللغو سقط القول، وهذا يعم جميع ما لا خير فيه". وتتجلى خطورة اللغو في أبعاده الثلاثة التي يوضحها سيد قطب في ظلاله : "لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور". هذا الفهم الشامل يكشف أن اللغو ليس مجرد كلمات عابرة، بل منظومة سلوكية متكاملة تؤثر في جوهر الشخصية والمجتمع.
التكلفة الاقتصادية والاجتماعية للغو
يمثل اللغو استنزافاً حقيقياً للموارد المجتمعية على مستويات متعددة. فهو يتسبب في إهدار ساعات العمل المؤسسي من خلال الثرثرة غير المجدية، ويؤدي إلى تشتيت جهود العاملين وتقليل الإنتاجية الكلية. كما أن انتشاره يسهم في تعطيل مشاريع التنمية بسبب الجدل العقيم والنقاشات غير المثمرة، مما يؤدي إلى تحول الطاقات المجتمعية من الإنتاج إلى الاستهلاك الفارغ للوقت والجهد.
الخطر النفسي للغو على الشخصية الناهضة
يقدم الشيخ أبو زهرة تحليلاً عميقاً لخطورة اللغو على البناء النفسي للإنسان بقوله: "إن سماع اللغو من القول يهون في النفس الأمور الخطيرة، ويجعلها في حال عبث ولهو، ومع الإكثار من سماع اللغو تنماع النفس انمياعاً، ولا تقوى على تحمل مشاق التكليفات الشرعية". هذا التحليل يكشف عن دور اللغو في تحطيم المناعة النفسية للشخصية الناهضة وإضعاف قدرتها على تحمل مسؤوليات النهضة.
مأسسة اللغو: التحدي الأكبر
يكمن التحدي الأخطر في تحول اللغو من مجرد سلوك فردي إلى ظاهرة مجتمعية منظمة. فقد أصبحنا نشهد ظهور منصات إعلامية تكرس ثقافة اللغو، واستحداث وظائف ومهن قائمة على الثرثرة وإضاعة الوقت. الأخطر من ذلك هو تشويه المعايير المجتمعية حتى أصبح الشخص الجاد "غريباً"، والثرثار "نجماً"، مع محاولات التأصيل الخاطئ للغو تحت مسميات براقة مثل "التواصل الاجتماعي" و"الترفيه".
المنهج المتكامل لمواجهة اللغو
يقدم البقاعي رؤية متكاملة للعلاج بقوله: "ولما كان كل من الصلاة والخشوع صاداً عن اللغو... فصاروا جامعين فعل ما يعني وترك ما لا يعني". وتتجلى معالم هذا المنهج في بناء الضمائر قبل إصلاح الظواهر، والتركيز على الترك العمدي الواعي للغو. كما يؤكد على أهمية تحقيق التكامل بين العبادة والسلوك اليومي، والجمع بين فعل النافع وترك الضار.
البدائل الإيجابية في مواجهة اللغو
يرسم سيد قطب خارطة طريق للبدائل النافعة بقوله: "إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان". هذه البدائل تشمل الانشغال بالذكر والتدبر، والتركيز على التكاليف العملية للعقيدة، والانخراط في العمل المجتمعي النافع، مع تحقيق التوازن بين الجد والترويح المشروع.
ويؤكد سيد قطب على محدودية الطاقة البشرية بقوله : "والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح".
نختم :
إن مواجهة تحدي اللغو ليست ترفاً فكرياً أو كمالياً في مشروع النهضة، بل هي ضرورة استراتيجية لحماية الطاقات والموارد من الهدر والضياع. وكما يقول الزمخشري: "يعني أنّ بهم من الجدّ ما يشغلهم عن الهزل". فالناهض الحقيقي هو من يدرك قيمة وقته وطاقته، ويوجههما نحو ما يخدم قضايا أمته ومجتمعه، متجاوزاً سفاسف الأمور وصغائرها إلى معالي الأهداف وكرائم الغايات.
كتب حسان الحميني والله الموفق