استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

حواراتي مع الدكتور جاسم: الحياة الطيبة والوجدان الحي


رباب:
يخبرنا الله تعالى في القرآن " طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى " سورة طه (1،2)
هناك مكون مفقود في معادلة تفاعل الإنسان مع نقص الحياة، وإذا عُثر عليه، استطاع الإنسان حل الإشكال والوصول الى الحياة الطيبة. ما الذي يقدمه الوجدان الحي من امتيازات لصاحبه في هذا السياق؟.
المعلم:
إذا لم يكن هناك مرض نفسي متعلق بكيمياء الجهاز العصبي، فالامتياز الوحيد هو في تفاعل الإنسان المؤمن مع تحديات الحياة بالصبر والأمل والرجاء.
رباب:
جميل، هذا امتياز أول. صاحب الوجدان الحي أقدر على تحمل مصاعب الحياة، ولكن أعتقد أن هناك امتيازًا ثانيًا، وهو القدرة على الاستمتاع بالحياة، ولحظات الجمال، وعيش اللحظة. فالإنسان بفطرته يبحث عن المتعة التي يوازن بها كفة الألم حتى يستطيع الاستمرار. فالوجدان الحي يضفي على الحياة ألقًا. ما رأيك؟
المعلم:
الحياة الطيبة هي حياة توازن، والمؤمن أقدرعلى الاستمتاع بالقليل المتاح.
رباب:
إذن، الوجدان الحي يضبط الميزان، فلا يغرق صاحبه في هموم الحياة ومصاعبها، وفي نفس الوقت يكون قادرًا على الاستمتاع بالقليل المتاح. والحقيقة أن المتاح ليس قليلاً أبدًا. فحتى الطبيعة لوحدها هي ملعب واسع فيه كل معاني الجمال، والخيال هو ملعب أوسع، ناهيك عن الفنون بأنواعها وأشكالها. وكل مصاديق الجمال والخير في هذا العالم هي مسرح الوجدان وملعبه.
المعلم:
هذا صحيح، "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها".
رباب:
أحاول تأصيل مفهوم الوجدان شرعًا، ولم أجد لفظة "وجدان" في القرآن أو ما يقاربها. فأين يمكننا أن نُعثر على مفهوم مقارب له في الشريعة؟
المعلم:
أقرب مفاهيمه هو "الفطرة"، أي المرآة الأصلية للنفس، وربما هي ذاتها تركيب معقد من العقل ومنطقه الأولي والعواطف البكر.
رباب:
هل يمكن القول إن الوجدان هو العاطفة العاقلة؟ أي أن هناك منطقًا تحليليًا جافًا يوجد إلى جانبه منطق وجداني حي؟
المعلم:
العاطفة انطلاق والعقل لجام، والإنسان يحتاج إلى الانطلاق واللجام.
رباب:
وأين موقع الوجدان بينهما؟ هل هو مزيج بين الشعور العاطفي والتفكير المنطقي؟ لأنك عندما تتأمل الكون بنظرة وجدانية، فإنك تنفعل شعوريًا وتتساءل عقليًا. مثال: زهرة شكلها جميل ومميز، ستثير فيك شعور انبهار بجمالها وتساؤل عن تكوينها. مزيج الدهشة مع التساؤل هو ما أعنيه بالمنطق الوجداني.
المعلم:
الوجدان بما هو جهاز مسبق التركيب في الإنسان ابتداءً...
الوجدان بما هو أمر قابل للنمو والتطور...
الوجدان بما هو استخدام مرشد من العقل للتفاعل مع الوجود...
رباب:
تمام، ولكن كلمة "جهاز مسبق التركيب" أشكلت علي قليلاً.
المعلم:
أول سؤال في الفلسفة هو: هل العقل صفحة بيضاء عند الولادة تتكون معارفه من خلال الحواس، أم فيه معارف أولية وقوالب مثالية يقيس عليها؟ أم أنه مزود ببعد الزمان والمكان كأولويات؟ فحين نقول "جهاز مسبق التركيب"، فإننا نعني أنه بكونه إنسانًا، فهو جزء منه سابق الوجود.
رباب:
فهمت الآن. اسمح لي بالعودة إلى تعريف الوجدان الأخير. عرفته كالتالي:
الوجدان هو جهاز مركب في الإنسان ابتداءً...
الوجدان هو أمر قابل للنمو والتطور...
الوجدان هو استخدام مرشد من العقل للتفاعل مع الوجود...
أعتقد أنه ينقصنا تحديد طبيعة هذا التفاعل بين الوجدان والوجود، كيف يتفاعلان؟
المعلم:
عن طريق فهم الوجود بأنه حياة، وأن نسيج الاتصال به هو الرحمة، وأن غرض الاتصال هو إشراقة الروح بالعطاء، وممارسة التأمل بخلق الدهشة من الذرة إلى المجرة.
رباب:
الله الله، أشرقت روحي بهذه الكلمات. ولكن ماذا تقصد تحديدًا بعبارة "إشراقة الروح بالعطاء"؟ هل تقصد أنه عندما تشرق الروح يصبح الإنسان خيرًا ويفيض عطاءً على الكون؟
المعلم:
أي عندما يعطي الإنسان من باب الرحمة بالوجود، تشرق نفسه. فرأفته بطفل أو ورقة شجر أو طائر أو عاجز، بقدر ما هي عطاء، هي غسل لروحه.
رباب:
جميل جدًا، وهذا امتياز آخر يحصل عليه صاحب الوجدان الحي. بقدر ما يعطي الكون من رحمة، تعود إليه سمواً روحياً. هل لاحظت أمرًا؟ لقد صرخت "الله الله" قبل أن أعي معاني كلماتك تمامًا. فالقراءة الأولى لامست وجداني وأثارت في الدهشة، ثم لامست القراءة الثانية عقلي فبدأت أستوضح المعاني. لماذا برأيك حصل ذلك معي؟ هل السر في أسلوب الكتابة؟
المعلم:
صحيح، فهي تبدو منطقية ومتماسكة، وبها وقع نفسي مشحون.
رباب:
صدقت، وهذه التوليفة المتكاملة من سبك المعاني والكلمات، والخروج منها بنصوص تحرك الذكاء الوجداني وتثير الذكاء المنطقي هي ما يحقق تمام المعنى، ويضمن وصوله إلى ذهن المتلقي واستيعابه تمام الاستيعاب، وتفاعله معه وإحداث تمام الأثر. فالخطاب المعرفي الجاف لا يحقق هذه الثلاثية:
تمام المعنى
تمام الاستيعاب
تمام الأثر
أعطيك مثالًا، وبالمثال يتضح المقال:
"ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر."
جملة قصيرة مؤلفة من خمسة كلمات لا غير، تختصر مسيرة الإنسان. تشعر القارئ بداية عند قراءتها لأول مرة بمشاعر خوف من طول الغفلة، ومن قصر العمر، وحشة القبر. ثم في القراءة الثانية يقف عند المعاني ويفهمها. فتتكامل دائرة الفهم مع الشعور ويحصل تمام المعنى وتمام الاستيعاب وتمام الأثر.
كان من الممكن أن يخبرنا رب العالمين بهذه الحقيقة بأسلوب تقريري جاف، ولكن ما كنا لنستوعب المعنى ونستحضر الشعور الكامن وراءه. كان المعنى سيصلنا ناقصًا ولن يحدث الأثر المطلوب منه.
ما أود قوله هو التالي: إيصال المعرفة للعوام يجب أن يغلف بقوالب تثير وجدانهم، وإلا فإنها لن تصل أو ستصل مبتورة.
هذا القالب قد يكون لغة بديعة مسبوكة كالذهب، كالقرآن الكريم...
أو مبنى عبقري جميل متسق كقصر الحمراء في غرناطة...
أو لوحة فنية تنطق مشاعر كلوحة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي...
أو فيلم إنساني عميق عظيم الإخراج كالفيلم الفرنسي إيميلي بولان...
أو رحلة سير في الأرض كصعود الجبال والاندماج مع الطبيعة البكر...
المعلم:
صحيح، ولكن الكلام سهل والعبور له عناء، فهو رحلة تعلم لا نهاية لها.
رباب:
سؤال أخير: كيف أوظف آيات القرآن لتخدمني كأداة تدريبية لزيادة حساسية وجدان المسلم؟
المعلم:
تحت عنوان البلاغة في القرآن، اختاري السور ذات الجرس الموسيقي وشرحيها كما لو كانت صورة وليست نصًا، بحيث يحصل التأثير المطلوب. والحوار حول معناها والحديث عن احتماليات المعنى، وكذلك الأصوات والنغم والجرس، هي تدريب على التقاط النغمة. سورة الرحمن تصلح كمثال عملي.
رباب:
اختيار جميل. سأفعل بإذن الله.
المعلم:
سلمتِ وبوركتِ




كتابة: م. رباب قاسمو

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.