أظن أن هذا الموضوع:( الدين والسياسة والواقع والعلاقات الدولية....) يتطلب النظر إليه من كل الزوايا، بما في ذلك التاريخية والحضارية، فضلا عن العلوم الإنسانية والإجتماعية، وأكيد علم تفسير القرآن وأصول الشريعة ومقاصدها ...
وهذه ورشة ضخمة جدا، لكن لا بد منها، وإلا ،فلن نستطيع التمييز بين الآراء الطارئة وبين أصول هذه العلوم،ولا بين انعكاسات المحاولات في الواقع ولا الواقع الحقيقي ...
فتداخل التدافع الخفي والجلي، يعملان معا في التاريخ،والناظر الى الواقع يتطلب معطيات كثيرة جدا، ومختصين في كل المجالات اعلاه لكي يسلم حكمه.
الدين المؤكد المصدر والمحفوظ بالنص وببراهين اطراد تطابقات العلوم الدقيقة مع آياته الجزئية والكلية، هذا الدين منظورا إليه ككل وبمنهج علمي لا يتضمن أي تناقض او حجر ضد تحرير الإنسان وحقوقه ورخاءه فردا ومجموعات وبشرية
بل بالعكس: مفهوم الخليفة ،المستخلف، المؤتمن، ...كلها مبادئ قرآنية كبرى تضمن كل ما يتعلق بحرية الإنسان ومبادرته وإخراج أقصى إمكاناته...
وليس هذا فحسب، بل إن كيفية بدء خلق الكون ،ثم خلق الحياة ضمنه، وتوقيت وموقع وظروف خلق الإنسان، كتركيبة موحدة مرتبة، لدليل على أن تلكم المبادئ القرآنية المذكورة، تمت مراعاتها وتنفيذها في النموذج الكلي والتفصيلي لصياغة الكون نفسه !!!
فهذا التوسيع، الزماني/المكاني قبل وحول الإنسان، يعد سحبا للتقديس الى ما فوق الكون، ولئلا يعرقل أي أمر غيبي وخارق مجال نمو وانطلاق التحرر البشري ..وجدانيا ومعرفيا وأخلاقيا..
وإذا كان ماكس فيبر قد عرف الحداثة بأنها ما ادى الى نزع السحر(أي القداسة) عن العالم، فأصبح بمقدور الإنسان اختراقه ودراسته والتسيد ضمنه،ثم فوقه(ولو ادعاء)، فإن التوحيد الرسالي، بسحبه القداسات الزائفة والإكراهية والكاذبة من العالم(الطبيعي والإجتماعي والمستقبلي) هو(أي التوحيد الرسالي ) الذي نزع حقا السحر كتكبيل عن العالم ...
فبنية الكون وطريقة خلقه وصياغة القوانين والسنن بدون مجانية وبلا إكراهية، تلك هي مقومات الإستخلاف: أي ليمكن قيام الإنسان حرا حقا...
معنى حرا، أي عدم وجود أفق حدي مطلق ينهي التساؤل وينهي البحث ومن تم ينهي الإختيار في تفسير الوجود بين احتمال الخلق المدبر الحكيم وبين احتمال التكاثر العشوائي !!
أما الآلهة المزيفة فقد تعلم الفطرة وحدها تخبطها...
ولكن الحقيقي المؤكد، أن الخالق لا يتدخل كل مرة للرد على اعمال المستخلفين، بل يترك السنن تسجل تنظم ،ثم حين يصل الاداء أجلا وعتبة حرجة تكفي موضوعيا للرد، يحصل الرد...
هذا هو حال الواقع، وهو نفسه الرؤية القرآنية لسنن التاريخ والإجتماع..وما يضيفه القرآن، انه يوسع ويعمق الرؤية لتشمل فقه السنن الكونية نفسها، من خلال جعل مبدأ /مقصد الإستخلاف متعلقا في آن واحد بجوهر الحرية وبنمط صياغة الكون !!
والحرية جعلها مقترنة ضرورة بالمسؤولية والأخلاق من جهة ،ومقترنة بإمهالية وتوسيع مجال النظر والتفسير امامها في الكون: إذ أزاح مختلف التفسيرات الغيبية غير العلمية خرافات ووثنيات وتطير ووووإلا وجود خالق واحد ووحيد وانه ليس مندرجا في ساحة النظر ولا البصر العلميين... إنه متعال غير معرقل لكل ساحة النظر والتساؤل والبحث...
وغير متدخل مباشرة إلا بالعلوم عبر السنن
وهو ذاته مريد للإنسان أن يريد ويختار ويختلف ويبدع وينطلق...
ذاك مشروعه من خلق الكون وطريقة خلق الكون الموحدة
وان هذا الإنسان مؤتمن على ما في الطبيعة والتاريخ والمستقبل من نعم وأسباب وآخرين ولاحقين ...لكن عمله وحاصل اجتماعه، لن يترك سدى،
لا في الدنيا رغم توسيع وعدم إكراهية فتح المجال
ولا في الآخرة ،حين تسمح نهاية التحرير الاولي، بحساب مباشر للتفاصيل التي كان حسابها في الدنيا سينهي طبيعة التحرير، اي كان سيكون تدخلا معجزيا مباشرا من الإله!!!
إذن ،هناك مبدأ اللا-إكراهية التحرري، التحريري،
وهناك مبدا اللا-مجانية السنني، اي ان وحدة قوانين الكون، والتكوين ومحدودية المجال الحيوي الكوكبي، تفرض ضرورة وجود قوانين لتنظيم علاقات الحريات ومئآلاتها في المجال الهش المحدود ...وهنا يكون الإئتمان موضع امتحان وتكون ضرورة الاخلاق العملية والتعاملية وتتداخل القوى والاهواء والضغوط والتراكمات،
اي نحن امام اللاتناهي في التعقيد...
ويتطلب وجود أسس منزهة عن الاهواء ومقاصد مرتبطة بنظام وغايات خلق الكون، وعلما متعلقا بكل احتمالات علاقات وتداخلات التعقيد،
كل هذا لتبنى عليه الدساتير والقوانين الاساسية التي عليها ان تحفظ الاداء الحضاري لئلا يتناقض مع الاداء الكوني على طول التاريخ...
والتناقض بينهما قاتل صميمي قد يذهب ببعض او بكل منظومة شبكات حفظ الحياة والماء والاسس البقائية الى غير رجعة !!!
فضلا عن تنامي التعقيد الثقافي التشريعي الخاطئ كالعنصريات الدينية والعرقية وقوانين حرية الكسب غير المحدود ضمن مجال محدود لإتلاف الفطرة واسس ذاكرة الارحام والاخلاق والبذور الاصلية والحدود بين جينومات الاحياء لتبقى عمودية حافظة للتنوع عن ان تكون بالعبث الهندسي الحيوي التجاري والعسكري، افقية !!
ما يخلط الحياة عشوائيا لصالح طغمة قليلة منفلتة بالتحرر المجاني الذي ينقلب إكراهيا سننيا ويغلق بالمرة المجال والعلوم والحريات...
لهذا كان للشريعة المنزهة موقع موضوعي صميمي كوني في العلاقة بين الاداء الكوني ونظيره الحضاري
فليس لخنق الحريات بل لنظم التعقيد مسبقا ودوريا(بالإجتهاد الحق) لكي يبقى المجال مفتوحا موضوعيا للتحرر والمسؤولية عبر الزمان والمكان الى نهاية الحياة البشرية
كتابة: محمد بن عزة