رباب:
هناك آية في الصيام فيها إشكال يستوقفني دائمًا:
" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"(البقرة: 187)
أباح الله للمسلمين التمتع بالحسِّيات في ليل رمضان بعد أن كانت محرمة، والسبب أنه بعد التجربة لم يحتمل المسلمون الأمر، فخفف عنهم.
سؤالي: ألم يعلم الله تعالى بواسع علمه أن المسلمين لن يحتملوا أمر المنع هذا، فلا يفرضه عليهم ابتداءً؟
المعلم:
في الواقع، الموضوع محير، وفك الحيرة هو اجتهاد يتعايش معه الإنسان لكنه يبقى ظنًّا. وعلى هذا المستوى، يمكن القول إن الخالق أراد أن يعرف المسلمين المنهج (جدل الواقع مع النص). أما المنتج فهو قابل للتعديل، وفقًا لممكنات الواقع المتغير دائمًا. وهو ما يقوله النظام الواقعي. فكثرة ترددات الأحكام مردها أنها نزلت وقائعية، بينما الفقه السائد بنى "نهايات" على أن هذه الأحكام. وحل اللغز بمقولة "النسخ" فاستبقى المنتج وترك المنهج.
رباب:
تمام، وكأن الله تعالى يريد أن يعلمنا كيف نختبر أحكام النصوص في الواقع. نجربها ونرصد تفاعلنا معها، ثم نخرج منها بحكم هو الأصلح والأنفع لنا، بشرط ألا يكون معارضًا لمقاصد الله الكبرى.
ولكن يخطر لي سؤال آخر:
هل تعتقد أن الله تعالى واثق بعقولنا لدرجة أن يفتح لنا الباب ويسلمنا النصوص لنجرّبها ونقيّمها، ثم نعدل ونستخلص منها أحكامًا جديدة تناسب ظروفنا؟
ألا يمكن أن نخطئ ونخرج بأحكام جديدة مخالفة للحق أو ليست على مراده؟
ما هو الضابط؟ ما هو الميزان؟
المعلم:
هذه هي معضلة العلوم جميعًا، فليس لهم طريق إلا ضبط المناهج بقدر الوسع.
النص إذا تحدد انغلق، وحتى يعبر الزمان والمكان كان من الضروري منهج الانفتاح والسعة.
رباب:
صحيح، يبدو أنه لا مهرب من تحرير النص. ما غاية شريعة الله أصلًا إن لم تنزل إلى واقع الناس وتحل مشاكلهم في كل الازمان، وتفتح لهم آفاقًا يتحركون فيها بثقة؟
ولكن أعتقد أن هناك ضابطًا مهمًّا أثناء عملية معالجة النصوص يظهر في قوله تعالى:
" وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " (المائدة:2)
للوصول إلى الحق، ينبغي أن يكون العمل جماعيًّا. عقل مؤمن واحد غير قادر مهما بلغ من اتزان على رؤية المشهد كاملاً، سواء مشهد النص أو مشهد الواقع. أعتقد كلما زادت العقول المشاركة في البحث، اتسعت زاوية الرؤية. لذلك تلك المناهج الفردية، سواء منهج الدكتور يحيى محمد أو غيره، تحتاج أن تُدرس جماعيًا من قبل مجموعة علماء أكابر مختصين بالعلوم الشرعية والإنسانية، لتحقيق رؤية أوسع للمشهد ومقاربة أدق للحق. هل تتفق معي؟
المعلم:
الإبداع دائمًا فردي، والتطوير وإن كان المجموع يقوم به، لكنه يتم بشكل منفرد، وخاصة في مناهج النظر.
رباب:
صحيح الإبداع فردي، ولكن لم أفهم التتمة. كيف يقوم المجموع بالتطوير بشكل منفرد؟
المعلم:
يعني عندما تقومين بعملك الذي تقومين به، هذا عمل فردي. سينزل للسوق والمجتمع والباحثين مجموعًا، لكن لن يعقدوا مجمعًا لبحثه، بل سينقده كل من زاويته منفردًا، وأنتم المستفيدون منه ستطورونه. وكلما زاد عدد مستخدميه، زاد نجاحه.
رباب:
تمام، فهمت الآن.
المعلم:
أيضًا، البحث عن مراد الله التفصيلي من حيث إنه مراد الله بالضبط محال. وكل ما نستطيعه هو أن نعدد معايير الموازنة للفهم. النص مادة خام محدودة، وتجادل واقع متجدد، وأي حل هو توفيق بين حدود النص وواقع تنزيله المتجدد. فإذا فسد الواقع، فالثابت هو مقاصد الشرع الكلية التي تحفظ الاتجاه، وبضابط الاتساق المنطقي ورعاية الفطرة الأخلاقية. ومن مجموع ذلك تنكشف الخطوة الأولى، ثم يتم تجريب الحل المحتمل. فإن لم يحقق غرضه، يُعاد الجدل ويُجرَّب غيره.
رباب:
هذا الكلام منطقي، ويبدو أن المشوار طويل للوصول للحل الأكثر قربًا للحق.
كتابة: م. رباب قاسمو