استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الظاهر والباطن في منهج الإصلاح: (رؤية قرآنية شاملة)

يقدم القرآن الكريم رؤية عميقة وشاملة في التعامل مع النفس البشرية، تتجلى في مفهوم "الظاهر والباطن" الذي ورد في آيات عديدة. تبرز هذه الرؤية بشكل خاص في ثلاث آيات من سورتي الأنعام والأعراف، حيث يتكامل المعنى ويتعمق الفهم للمنهج القرآني في الإصلاح والتغيير.

 الأساس القرآني

تؤسس الآيات الكريمة لهذا المفهوم العميق:

﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام:120]

﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأنعام:151]

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف:33]

 رحلة الفعل من الباطن إلى الظاهر

يكشف الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه الرحلة الدقيقة بقوله: "مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصوُّرات، والتصوُّرات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرةُ تكراره تعطي العادة. فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر..."

فالفعل يمر برحلة باطنية دقيقة:

  • - يبدأ خاطرة في القلب
  • - يتحول إلى تصور في النفس
  • - ينمو ليصير إرادة جازمة
  • - يُترجم إلى فعل ظاهر
  • - يتكرر ليصبح عادة راسخة

تنوع التفسيرات في فهم الظاهر والباطن

يكشف الزمخشري عن أبعاد هذا المفهوم بقوله: "ظاهر الإثم وباطنه ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السر". غير أن ابن عطية يعارض هذا التخصيص في تفسيره بقوله: "وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء... وذهب بعض المفسرين إلى أن القصد بهذه الآية أشياء مخصصات... إلى غير هذا من تخصيص لا تقوم عليه حجة، بل هو دعوى مجردة". ويضيف في موضع آخر نقلاً عن القاضي: "قال قوم: الظاهر الأعمال والباطن المعتقد".

منهج الإسلام في معالجة الظاهر والباطن
يوضح المكي الناصري عمق المنهج الإسلامي بقوله: "الإسلام لا يكتفي من معتنقيه بالشكليات والظواهر، ولا يرضى منهم بالنفاق، وإنما ينفذ إلى الأعماق والبواطن، فالنية الفاسدة والقصد السيئ والخلق المرذول الذي ينطوي عليه الشخص باطنا، والعمل القبيح الذي يتستر به عن الأعين، كل ذلك يعتبره الإسلام ذنبا ومعصية وفاحشة يؤاخذ بها المكلف".

بناء شخصية الناهض: منهجية التكامل بين الظاهر والباطن

  •     أولاً: تأسيس البناء المعرفي
يمثل البناء المعرفي الباطن الأساس الذي تنطلق منه عملية الإصلاح. فتصحيح المفاهيم والتصورات يشكل حجر الزاوية في بناء شخصية الناهض. إذ لا يمكن تغيير السلوك الظاهر دون معالجة القناعات الراسخة في النفس. فحين يدرك الإنسان علل التحريم وحِكَمه، ويفهم الأضرار المترتبة على المعصية، يتحول هذا الإدراك إلى دافع ذاتي للتغيير.
  •     ثانياً: تحويل المعرفة إلى سلوك
يأتي بعد تأسيس البناء المعرفي مرحلة ترجمة هذه المعرفة إلى سلوك عملي. فالقناعات الراسخة في النفس تتحول تدريجياً إلى عادات سلوكية إيجابية. يتجلى هذا في حرص الناهض على تجنب مواطن الزلل، وسعيه الدؤوب لتطبيق القيم في واقعه اليومي. فيصبح سلوكه الظاهر انعكاساً صادقاً لما استقر في باطنه من قيم ومبادئ.
  •    ثالثاً: التكامل بين الظاهر والباطن
تتحقق قوة الشخصية حين يتكامل الظاهر مع الباطن في وحدة منسجمة. فلا يكفي أن يمتلك الإنسان معرفة نظرية بالقيم والمبادئ، ولا يكفي أن يظهر سلوكاً حسناً دون قناعة داخلية. إنما القوة الحقيقية تكمن في هذا التكامل بين المعرفة والسلوك، بين القناعة والتطبيق، بين الباطن والظاهر.
  •    رابعاً: الاستمرارية والثبات
يحتاج الناهض إلى استمرارية في تعاهد هذا البناء المتكامل. فالنفس البشرية في حاجة دائمة إلى تجديد المعرفة وتقوية القناعات ومراجعة السلوك. وهذا ما يجعل شخصية الناهض في حالة نمو وتطور مستمر، مع ثبات على المبادئ والقيم الأساسية.

وأختم بالتذكير التالي :

إن معالجة الفواحش والمنكرات تتطلب منهجاً شمولياً يجمع بين إصلاح الظاهر والباطن معاً. فالفاحشة الواحدة لها ظاهر ولها باطن مستتر، وإذا لم يعمل الناهض على اجتثاث ما استقر في الباطن فسيعسر عليه اقتلاع ذلك في الظاهر. وهذا المنهج الشمولي هو أساس النهضة الحقيقية للفرد والمجتمع.


كتابة: حسان الحميني

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.