استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

التمكين والإحسان (دروس نهضوية من قصة يوسف عليه السلام)


تقدم قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم نموذجاً فريداً في التمكين والنهضة، يتجلى بوضوح في قوله تعالى: "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء" [يوسف: 56]. هذا النموذج يستحق التأمل العميق لما يحمله من دروس وعِبر في النهوض الحضاري وبناء الإنسان.

 الإرادة القوية والمؤهلات: عماد التمكين

تتجسد الإرادة الواعية للتمكين في طلب يوسف عليه السلام للمسؤولية بقوله: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" [يوسف: 55]. لقد كان هذا الطلب تعبيراً عن إرادة واثقة ومؤهلات متكاملة. فالإرادة القوية تجلت في المبادرة الإيجابية والجرأة في طلب المسؤولية، والمؤهلات تمثلت في وصفه لنفسه بـ"حفيظ عليم"، جامعاً بين الأمانة والكفاءة، والقوة والحكمة. 
جاءت الاستجابة الإلهية في التمكين متناغمة مع هذا الاستعداد المتكامل، وهو ما يلمحه البقاعي في تفسيره حين يقول: "ومثل ما سأل من التمكين مكنا... يتبوأ منها حيث يشاء بإنجاح جميع مقاصده". إنه درس عميق في أن التمكين يستدعي إرادة قوية مدعومة بمؤهلات حقيقية.

جوهر التمكين وعلاقته بالإحسان

يكشف التأمل في التمكين الذي حظي به يوسف عليه السلام عن معنى أعمق من مجرد السلطة والنفوذ. فالتمكين، كما يشير البقاعي، شمل القدرة الحقيقية على التصرف والتأثير في الأرض "مطلقاً". هذه القدرة لم تأتِ عبثاً، بل كانت ثمرة لمنهج الإحسان الذي التزم به يوسف في كل مراحل حياته، من بيت العزيز إلى السجن، ومن السجن إلى قصر الحكم.

 التحرر والتمكين: من القيد إلى الآفاق

يرسم سيد قطب بعمق مسار التحول من القيد إلى التمكين في تفسيره: "يتبوأ منها حيث يشاء.. يتخذ منها المنزل الذي يريد، والمكان الذي يريد، والمكانة التي يريد. في مقابل الجب وما فيه من مخاوف، والسجن وما فيه من قيود". إن هذا التحول يمثل نموذجاً للنهضة التي تبدأ بتحرير الإنسان من قيوده الداخلية - من الخوف والتردد والضعف - قبل تحرره من القيود الخارجية.
 التأسيس للتمكين: رحلة التكوين المتكامل

لم يكن التمكين الذي حظي به يوسف عليه السلام طفرة عارضة، بل كان ثمرة لمسار تأسيسي متكامل. فقد مر عبر محطات تكوينية متعددة، بدأت بالتربية النبوية في كنف أبيه يعقوب عليه السلام، حيث تشكلت أسس شخصيته الإيمانية. ثم جاءت محنة البئر لتصقل فيه الصبر وقوة التحمل، تلتها مرحلة بيت العزيز التي أكسبته خبرة في التعامل مع مستويات اجتماعية مختلفة. وكان السجن مدرسة في القيادة المصغرة، حيث تجلت قدراته في التأثير والتوجيه. كل محطة من هذه المحطات كانت مدرسة تكوينية في الصبر والحكمة والإدارة، أسهمت في بناء شخصيته المتكاملة.

الإحسان: منهج متكامل للتمكين

برز الإحسان في قصة يوسف كمنهج متكامل للتمكين، متجلياً في كل المراحل والمواقف. فقد أحسن في عمله في بيت العزيز رغم المحن والإغراءات، وأحسن في السجن رغم الظلم والضيق، ثم أحسن في إدارة موارد مصر وقت الأزمة. هذا الإحسان المتواصل كان مفتاحاً للتمكين، إذ تحول من سمة شخصية إلى منهج عملي في الإدارة والتخطيط وخدمة المجتمع.

 توازن الدنيا والآخرة: رؤية متكاملة للتمكين

يقدم الفخر الرازي رؤية عميقة لتوازن الدنيا والآخرة في مسيرة التمكين بقوله: "المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا، إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل". هذا التوازن يؤسس لفهم عميق للتمكين، يجمع بين مشروعية السعي للنجاح الدنيوي واستحضار الغاية الأخروية، فلا طغيان للمادي على الروحي، ولا إهمال للدنيوي باسم الأخروي.

 نحو نهضة معاصرة: دروس وعبر

تقدم قصة يوسف نموذجاً عملياً للنهضة المعاصرة يقوم على أركان متينة: تحرير الإرادة من قيودها النفسية والاجتماعية، وبناء الكفاءة العلمية والإدارية، والجمع بين القوة والأمانة في تحمل المسؤولية. هذا النموذج يصلح أساساً لنهضة حضارية شاملة تجمع بين الإحسان في العمل والإتقان في الأداء، مع استحضار دائم للغاية السامية في عمارة الأرض.

إن العبرة الأساسية المستفادة من هذا النموذج القرآني هي أن التمكين الحقيقي ليس مجرد سلطة أو نفوذ، بل هو ثمرة لبناء متكامل للشخصية، يجمع بين قوة الإرادة وسلامة المنهج، بين الكفاءة والأمانة، وبين الطموح الدنيوي والهدف الأخروي. وهذه الرؤية المتكاملة هي ما تحتاجه الأمة اليوم في مسيرتها نحو النهضة والتمكين.

 حرية الحركة: جوهر التمكين

تكشف عبارة "يتبوأ منها حيث يشاء" عن بُعد جوهري في مفهوم التمكين، يتجاوز مجرد السلطة النظرية إلى القدرة العملية على الحركة الحرة والفاعلة. فكلمة "حيث يشاء" تحمل معاني عميقة تؤسس لفهم متكامل للتمكين الحقيقي في الأرض.

يتجلى هذا المفهوم في عدة مستويات: فهو أولاً تحرر من القيود المكانية، يتيح للإنسان الممكَّن أن يتحرك في الأرض بحرية واقتدار. وهو ثانياً قدرة على اتخاذ القرار واختيار مجالات العمل والتأثير، فالمشيئة هنا تعني حرية الاختيار المدعومة بالقدرة على التنفيذ. وهو ثالثاً تجاوز لحالة الجمود والسكون إلى حالة الحركة والفعل، فالتمكين الحقيقي يقتضي حركة دائمة وفعلاً مستمراً.

هذا الربط بين التمكين وحرية الحركة يقدم دروساً مهمة للنهضة المعاصرة: فالأمة المتمكنة هي التي تمتلك حرية الحركة في مجالات العلم والاقتصاد والسياسة، والقدرة على التأثير في مسار الأحداث، والفاعلية في صناعة التغيير. وهذا يتطلب تحريراً للإرادة من قيود التبعية، وبناءً للقدرات الذاتية، وامتلاكاً لأدوات التأثير في الواقع.

 أخيرا، نحو تمكين فاعل ونهضة شاملة

يتجلى في قصة يوسف عليه السلام نموذج متكامل للتمكين الحضاري، يجمع بين قوة الإرادة وسلامة المنهج، بين الكفاءة والأمانة، وبين الطموح الدنيوي والهدف الأخروي. هذا النموذج يقدم دروساً عملية للنهضة المعاصرة تتمثل في:

  • - بناء الإرادة القوية المؤهلة للتمكين
  • - اعتماد الإحسان منهجاً في العمل والإدارة
  • - تحرير الطاقات للحركة الفاعلة في الأرض
  • - الجمع بين القوة والأمانة في تحمل المسؤولية
  • - التوازن بين عمارة الأرض والغاية الأخروية

إن التمكين الحقيقي، كما تجلى في قصة يوسف، ليس مجرد سلطة أو نفوذ، بل هو قدرة على الحركة الفاعلة في الأرض، تستند إلى بناء متكامل للشخصية، وتنطلق من رؤية شاملة للنهضة والتغيير. وهذه الرؤية المتكاملة هي ما تحتاجه الأمة اليوم لتستعيد دورها الحضاري الفاعل في عمارة الأرض وخدمة الإنسانية.




كتب حسان الحميني
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.