استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

منهج الإصلاح في ضوء الآية 88 من سورة هود(رؤية متكاملة في التأسيس والتطبيق)


(قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَٰٓيْتُمُۥٓ إِن كُنتُ عَلَيٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّے وَرَزَقَنِے مِنْهُ رِزْقاً حَسَناٗۖ وَمَآ أُرِيدُ أَنُ ا۟خَالِفَكُمُۥٓ إِلَيٰ مَآ أَنْه۪يٰكُمْ عَنْهُۖ إِنُ ا۟رِيدُ إِلَّا اَ۬لِاصْلَٰحَ مَا اَ۪سْتَطَعْتُۖ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُۖ) [88]،

تجسد الآية الثامنة والثمانون من سورة هود نموذجاً فريداً في عرض منهج الإصلاح المتكامل، متجلياً في قصة نبي الله شعيب عليه السلام. وتكشف الآية عن أسس جوهرية في منهج الإصلاح والدعوة، تستدعي التأمل العميق والدراسة المتأنية.

 البلاغة النبوية : فن الحوار وأدب الخطاب

يكشف ابن عطية رحمه الله عن البعد البلاغي الرفيع في أسلوب شعيب عليه السلام بقوله: "هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء رفيق ونحوها عن محاورة شعيب عليه السلام، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك خطيب الأنبياء". فيتجلى في هذا الأسلوب الحواري منهج دعوي متميز يجمع بين متانة المضمون ورقي العرض.

 الرزق في مفهومه الشامل: ثنائية المادة والمعنى

يقدم الإمام الماتريدي تأصيلاً عميقاً لمفهوم الرزق في الآية بقوله: "ورزقني منه رزقا حسنا أي قال: هو رزقني رزقا حسنا الدين والهدى والنبوة على ما ذكرنا. وأمكن أن يكون الرزق الحسن هو الأموال الحلال الطيبة التي لا تبعة عليه فيها". وبهذا يؤسس لرؤية متكاملة تجمع بين الرزق المادي والمعنوي في حياة الداعية والمصلح.

 المخالفة المنهجية: تجاوز الشكل إلى الجوهر

يؤصل ابن عاشور لمفهوم المخالفة الحقة بقوله: "فمعنى قوله: {وما أريد أن أخالفكم} أنّه ما يريد مجرّد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم". وبهذا يرسم معالم منهج إصلاحي يتجاوز المخالفة الظاهرية إلى المقاصد السامية.

 القدوة العملية: تجسيد المبادئ في الواقع

يبرز سيد قطب رحمه الله عمق الأثر العملي في شخصية المصلح بقوله: "يتلطف في إشعارهم أنه على بينة من ربه كما يجده في ضميره وقلبه؛ وأنه على ثقة مما يقول لأنه أوتي من العلم ما لم يؤتوا... فهو لا يبغي كسبا شخصيا من وراء دعوته لهم؛ فلن ينهاهم عن شيء ثم يفعله هو لتخلو له السوق!"

 مقومات النجاح: تزكية النفس قبل إصلاح الغير

يضع القشيري أسساً راسخة لنجاح المصلح الناهض بقوله: "مَنْ لم يكنْ له حُكْمٌ على نفسه في المنع عن الهوى لم يكن له حُكْمٌ على غيره فيما يرشده إليه من الهدى. مَدَارُ الأمر إلى الأغراض المقضية حُسْنُ القصد بالإصلاح، فيَقْرِنُ اللَّهُ به حسن التيسير".

العلم والعمل: جدلية التأسيس والتطبيق

تؤكد الآية على التلازم الحتمي بين العلم والعمل في منهج الإصلاح. فلا يكفي الحماس الإصلاحي دون التأصيل المعرفي والبينة الواضحة. ويتجلى هذا التلازم في نظم الآية ذاتها، حيث يتقدم ذكر البينة والرزق الحسن على إرادة الإصلاح.

 خطورة القراءة المجتزأة: تحذير منهجي

تبرز في الساحة الإصلاحية المعاصرة إشكالية خطيرة تتمثل في الاقتصار على الشق الثاني من الآية: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت"، وإغفال شقها الأول المؤسس للبينة والعلم. هذا الاجتزاء يؤدي إلى نتائج وخيمة:

  • أولاً: يُفقد العمل الإصلاحي بوصلته المعرفية، فيتحول إلى حماس عاطفي مجرد من الرؤية والمنهج.
  • ثانياً: يؤدي غياب البينة والعلم إلى إصلاح ظاهري قد يكون في حقيقته إفساداً، لافتقاده الأسس المعرفية السليمة.
  • ثالثاً: يضعف قدرة المصلح على الإقناع والتأثير، إذ يفتقد الحجة والبرهان اللذين هما من مقتضيات البينة.
  • رابعاً: يخل بالترتيب الإلهي الحكيم في الآية، والذي قدم العلم والبينة على إرادة الإصلاح، في إشارة إلى أن العلم شرط سابق للعمل الإصلاحي.

 الاستطاعة وتطويع المسخرات: علم قبل عمل

تكشف عبارة "ما استطعت" في الآية عن بُعد معرفي عميق يتجاوز مجرد بذل الجهد. فالاستطاعة هنا تتضمن القدرة على تطويع المسخرات وتوجيهها نحو الإصلاح المنشود، وهذا يستلزم:

  • أولاً: فهماً عميقاً للسنن الكونية والاجتماعية التي تحكم حركة المسخرات.
  • ثانياً: علماً بكيفية توجيه هذه المسخرات وتطويعها لخدمة الهدف الإصلاحي.
  • ثالثاً: بينة واضحة في كيفية التعامل مع هذه المسخرات، فليست الاستطاعة مجرد قدرة مادية، بل هي قدرة مؤسسة على علم وبصيرة.
  • رابعاً: إدراكاً عميقاً أن تطويع المسخرات يحتاج إلى علم قبل أن يحتاج إلى قوة، وإلى بصيرة قبل أن يحتاج إلى وسيلة.
وهذا الفهم يعمق العلاقة بين شقي الآية: فالبينة والعلم ليسا مجرد مقدمة نظرية للإصلاح، بل هما شرط أساسي لتحقيق الاستطاعة الحقيقية في تطويع المسخرات لخدمة هذا الإصلاح.

في النهاية لابد أن نتذكر :

أن الآية الكريمة تقدم منهجاً متكاملاً للإصلاح يجمع بين ثنائيات متعددة: العلم والعمل، المادة والمعنى، الحكمة والقوة، إنه منهج صالح لكل زمان ومكان، يتجاوز الشعارات البراقة إلى العمل المؤسس على العلم والبينة. وتبرز أهمية هذا المنهج المتكامل في عصرنا الحاضر، حيث تكثر الدعوات الإصلاحية المجتزأة التي تغفل أهمية التأسيس المعرفي والبينة الواضحة، وتتجاهل حقيقة أن الاستطاعة نفسها تحتاج إلى علم وبصيرة.



كتابة: حسان الحميني

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.