أرض مباركة وخيرات وفيرة وأنس طيبون ذات نهار تسطع شمسه على واديها الأخضر الخلاب ، وليل هادئ تسري فيه طمأنينة القمر إلى قلوب الكبار والصغار ذوو الأحلام الوردية والوجوه البريئة ..
وذات يوم تسلط عليها مجموعة لصوص هددوا أهلها بالسلاح الأبيض فذعر الناس وتركوهم يسلبون وينهبون ، ثم رحلوا بعد أن عاثوا في الأرض فسادا دون أدنى مقاومة من أهل مدينة الأمل ..
كان الصغار يبكون ويصرخون مرتعدوا الفرائص من منظر الحقول المخربة والطرق التي مازالت تحمل بقايا رائحة اللصوص النتنة وغبار حوافر بغالهم ونباح كلبهم الأجش الصارخ الذي مازال يتررد في ذاكرتهم..
كان الكبار يهدهدون صغارهم ويبشرونهم أن الشمس ستشرق غدا وقد أنستهم هول ما عايشوه بالأمس ..
نام الجميع في ليلة الهدوء الأخير، ولم يدركوا أن نومهم سيكلفهم الويلات غدا ..
أشرقت الشمس فعلا لكن ليس في السماء بل على الأرض حيث كان دوي طلقات البنادق يصم الآذان وقد اشتعلت البيوت على ساكنيها ..
نعم أيها السادة إنهم لصوص الأمس؛ تعالت صيحات النساء وبكاء الصغار واستغاثات من قلب الكتل المشتعلة ..
لقد كانت الدماء تسيل في كل مكان كما لو أن المدينة تعرضت لطوفان ودخان الحرائق يملأ السماء حتى لا تكاد تعرف فيها الليل من النهار ..
نهبت مدينة الأمل وقطعت أوصال كل من لبس ذهب وجواهر وقتل كل من خبأ ماله عن اللص ..
وأحرقت حقول القمح الذهبي وتلونت النهر بدماء سكان مدينة الأمل ..
بعد ليلة النسيان تلك التي كان الكبار يؤملون الصغار بشمس تشرق تنثر شعاع الأمل ..
لم تشرق شمس واكتست السماء بالسواد حدادا على مدينة الأمل ، التي تعددت صنوف العذاب التي ذاقها أهلها وما زالوا حيث أن اللصوص استوطنوا مدينتهم وعاثوا فيها فسادا ..
حاول أهل مدينة الأمل النهوض من كبوتهم لكنهم لم يعرفوا إلا الحرث والزرع ولم يكونوا فرسانا يوما ..
كانوا يملؤن لياليهم بأساطير عن أجداد كانوا شجعانا وأبطالا ، كان الصغار يحلمون أن يطل عليهم طيف الأجداد هؤلاء ليشكوا لهم بؤس حالهم ويسألونهم سبيلا للخلاص ..
يقطع صوت الأساطير كل ليلة رفرفات جناحات صقر لا يكاد يرى من بين ضباب الدخان الكثيف الأسود ..
وصوت يناديهم من لدن الصقر يا أهل مدينة الأمل لن ينفعكم البكاء والعويل ، لن يكف اللصوص مصاصوا الدماء عن سفك المزيد من الدماء ..
يا أهل مدينة الأمل تعلموا أن تكونوا أبطالا وتشبهوا بأساطيركم عندها تنقشع غيوم الظلام ..
كان الكبار يقذفون الصوت بالحجارة ويرددون نحن لا نحسن إلا البذر والحرث، ثم يضعون الكرفس في آذان الصغار حتى لا يستمعون للصقر ..
ثم يحلق الصقر بعيدا بعد أن ينهي موعظته ويختفي الصوت ..
مرة بعد مرة اعتاد الصغار على الاستئناس بصوت الصقر وصاروا يتهربون من أساطير آبائهم ويتسللون لتلة قريبة من السماء ليكونوا أقرب لصوت الصقر ..
كانت كلمات الصقر مؤلمة لهؤلاء الصغار الأبرياء فيبيتون ليلهم باكين ولكنهم مؤمنين بما يقول..
مرت الأيام والصقر يتعهد مدينة الأمل بالزيارة كل ليلة، والكبار يقذفونه والصغار يتهافتون على كلماته ..
ومع تتبع الصغار لثغرات الضباب صاروا يرون صديقهم الصقر ..
ثم صار الصقر يأتي ومعه زوار لقرية الأمل من مستوطني البراري المجاورة ليشاركونه الموعظة..
لكن الصغار كانوا يضيقون ذرعا بهؤلاء الزائرين ؛ فمرة يحل عليهم من يرثي حال فقرهم وقد ثقلت معاصمه بالذهب وهو يرفل في ثياب السلاطين التي نسجوها من أشجار مدينتهم ..
ومرة يأتي زائر في صورة حكيم بقبعة طويلة وأكمام واسعة ويحدثهم بلسان صوفي زاهد غلب باطنه ظاهره حتى يكاد يخاطب العفاريت والملائكة في صعيد واحد عن الفردوس الموعود وغياهب الملكوت ..
ومرة يأتيهم رفات مميوات تحكي لهم أساطير الممالك البائدة ..
ومرة ومرة ومرة ..
أخيرا صاح الصغار الذين كبروا وخطت شواربهم وقد مزقوا غمامات الضباب من فوق رؤوسهم ؛ صاحوا في وجه الصقر : أيها العم النبيل لقد وثقنا بك وآمنا بمواعظك وكبرنا على صوت جناحيك الذي يأتينا من بعيد ..
أيها الصقر الشجاع كف عنا زوارك ولا تدلهم على طريق مدينتنا فهم أشد إيلاما لنا من هؤلاء اللصوص السفاحين الذين لا يوفرون دماءنا ..
أيها العم النبيل يكفينا مواعظك حتى نبني مجد مدينة الأمل على كل هذا الركام ..
الأمجاد أيها الصقر النبيل لا تشيد على أرض تزلزلها الخيانة ، وبساتين العزة لا تغرس في تربة تسري فيها ديدان النفاق، ومدن الفضائل لا تبنى بأوتاد ينخرها سوس الدجل ..
كان الصقر مندهشا من صوت يأتيه بعد صيحاته الكثيرة التي طال انتظار رجع صداها .
حلق بعيدا وهو مؤمن أن مدينة الأمل ستشرق شمسها يوما ، وهو عازم على أن لا يدخر جهدا لمؤازرة صغار مدينة الأمل أبطال الغد ونجوم المستقبل ...
فاطمة بنت الرفاعي