استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الإمامة والنهضة (دروس قرآنية من دعاء عباد الرحمن)


يختم القرآن الكريم وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان بدعاء عميق الدلالة، يجمع بين البناء الأسري والقيادة المجتمعية. هذا الختام ليس مجرد دعاء عابر، بل هو تتويج لمسيرة تربوية متكاملة بدأت بالمشي على الأرض هوناً، ومرت بمجموعة من الصفات التي تؤهل صاحبها للقيادة والإمامة. وكأن القرآن يؤسس لمفهوم جديد للنهضة، يبدأ من الذات، ويمر بالأسرة، لينتهي بقيادة المجتمع نحو التقوى والصلاح.
المفهوم التأسيسي للإمامة:
يقدم ابن عاشور تأصيلاً عميقاً لمفهوم الإمامة بقوله: "والإمام أصله: المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله... وأُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالَب". هذا المفهوم يؤسس لفهم جديد للقيادة يتجاوز المناصب والمسميات إلى جوهر التأثير. فالقائد "قالب" يتشكل على صورته المقتدون به، مما يجعل مسؤوليته مضاعفة. وهذا المعنى يفرض على القائد النهضوي أن يكون نموذجاً حياً لما يدعو إليه، فلا ينفصل قوله عن فعله، ولا ظاهره عن باطنه.
البناء التكاملي للنهضة:
يكشف سيد قطب عن البعد التكاملي في هذا الدعاء بقوله: "وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق: شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله. وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال". هذا التحليل يكشف عن منهجية قرآنية في التغيير تبدأ من الدائرة الأقرب. فالنهضة الحقيقية لا تتجاوز الأسرة إلى المجتمع، بل تبدأ بإصلاح البيت لتنطلق منه إلى إصلاح المجتمع. وهذا يعيد تصحيح مسار كثير من الحركات النهضوية التي تسعى للتغيير المجتمعي قبل إصلاح البيت الداخلي.
شروط الإمامة النهضوية:
يضع القشيري شرطين أساسيين للإمامة بقوله: "الإمام مَنْ يُقْتَدى به ولا يَبْتَدِع"، ويؤكد أن "الإمامةُ بالدعاء لا بالدعوى". هذا التأصيل يؤسس لمنهج قيادي يجمع بين الاتباع والإبداع. فالقائد متبع في الأصول مبدع في الوسائل، لا يبتدع في الدين لكنه يجدد في آليات النهضة بما يناسب عصره. كما أن ربط الإمامة بالدعاء وليس الدعوى يؤسس لمفهوم "القيادة الخادمة" التي تنظر للإمامة كتكليف لا كتشريف.
مقياس النجاح النهضوي:
يقدم الماتريدي معياراً دقيقاً لقياس نجاح القيادة بقوله: "كأنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار تقيا، لا من اقتدى صار ضالا فاسقا". هذا المعيار يعيد تعريف "النجاح القيادي" من مجرد الأرقام والإحصاءات إلى جوهر التغيير. فالقائد الناجح ليس من كثر أتباعه، بل من ارتقى بهم نحو التقوى والصلاح. وهذا يفرض على القيادات النهضوية مراجعة معايير تقييم نجاحها، والتركيز على النوع قبل الكم.
وحدة المنهج النهضوي:
يلفت الطبري النظر إلى دقة التعبير القرآني في اختيار لفظ "إماماً" بالإفراد، بقوله: "وقال 'وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما' ولم يقل أئمة". هذه الدقة في التعبير تؤسس لمفهوم الوحدة في العمل النهضوي. فالإمامة هنا تشير إلى منهج واحد متكامل، لا إلى تعدد المناهج واختلافها. وهذا درس مهم للحركات النهضوية المعاصرة التي قد تتشتت في مناهج متعددة ورؤى متباينة. فالوحدة المنهجية لا تعني إلغاء التنوع في الوسائل والآليات، بل تعني الاتفاق على الأصول والغايات، مما يجعل العمل النهضوي أكثر تأثيراً وأبعد أثراً.
الأبعاد التربوية للقيادة النهضوية:
فقه الواقع في العمل النهضوي. يدفعنا لاعتبار التغيير عملية تدريجية تبدأ بالقلة المؤثرة قبل أن تصل إلى الكثرة المتأثرة. وهذا يعلم القيادات النهضوية درسين مهمين: الأول هو الصبر وعدم استعجال النتائج، والثاني هو التركيز على بناء النواة الصلبة القادرة على حمل مشروع التغيير.
خاتمة:
يقدم دعاء عباد الرحمن في سورة الفرقان نموذجاً متكاملاً للنهضة يتميز بالشمول والعمق. فهو يبدأ من العبودية لله التي تؤسس للإخلاص في العمل، مروراً بالبناء الأسري الذي يضمن استمرارية التغيير، وصولاً إلى القيادة المجتمعية التي تحقق الأثر المطلوب. هذا النموذج بكل أبعاده - من الدقة اللغوية في اختيار الألفاظ، إلى العمق التربوي في ترتيب الأولويات، إلى الواقعية في فهم طبيعة التغيير - يصلح أن يكون دليلاً عملياً لكل حركة نهضوية معاصرة تسعى للإصلاح والتغيير.

وتبقى الإشارة المهمة إلى أن هذا النموذج القرآني يربط النهضة بالتقوى، مما يجعل العمل النهضوي عبادة يُتقرب بها إلى الله، لا مجرد مشروع اجتماعي أو سياسي. وهذا الربط هو ما يضمن استمرارية العمل النهضوي وعمق تأثيره، لأنه يجعل غايته أسمى من مجرد التغيير المادي إلى التزكية الروحية والأخلاقية للمجتمع بأكمله.


كتب حسان الحميني
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.