رباب:
سلام الله عليك معلمي. أحيانًا تتضارب الأوامر الإلهية. لماذا أمر الله المسلمين في بداية الأمر بالعفو والصبر، ثم بعد ذلك أجاز لهم قتالهم؟
يأمرهم بالعفو والصبر في الآيات:
" وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (البقرة: 109).
"لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (آل عمران: 186).
ثم يأمرهم بالقتال في آيات أخرى:
" فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (سورة التوبة: 5 )
" قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ "(سورة التوبة: 29)
قرأت في تفسير ابن كثير ما يلي عن ابن عباس في قوله: "فَاعْفُوا۟ وَاصْفَحُوا۟ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ" قد نسخت بآية : "فَاقْتُلُوا۟ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ". هل بالفعل هناك نسخ؟
المعلم:
لا يوجد نسخ، إنما هو اختلاف أحوال. فجماعة النسخ يدورون حول أنفسهم في أسئلة من قبيل : أي آية سبقت الأخرى، وينقبون في التواريخ من غير هداية سوى الظنون. لذلك الأسهل هو اعتبار "النص جدلًا مع واقع" يختلف فيه الأشخاص ومواقفهم وتوازن القوى، فتختلف التوجيهات. فـ "التعريفات الماهوية" هي ما يخلق الإشكال.
رباب:
تقصد أنه عندما كان المسلمون قلة، لم يكن من الحكمة أو المنطق أن يقاتلوا المشركين، فنزل التوجيه الإلهي لهم بالصبر والانشغال بتزكية النفس. ولكن عندما تغيرت ظروفهم وكثر عددهم، ولاعتبارات سياسية أخرى فرضها الواقع، نزل الأمر بالقتال؟
المعلم:
هذا مرتبط بفهم كتاب النسق القرآني. فآيات الحرب نسق، وأي فهم مجتزأ يقود إلى أسئلة مربكة للعقل. لأن الفصل للفهم، أما نحن كبشر فمركب معقد أفرادًا ومجموعات.
رباب:
لم أفهم تمامًا. ما قصدك بعبارة: "الفصل للفهم"؟ وما علاقته بتعقيد تركيبتنا كبشر؟
المعلم:
نحن حين نقسم العلوم إلى سياسية واقتصادية واجتماعية، فغرضنا تسهيل الفهم. ولكن في الواقع، هذه كلها تعمل في ذات الوقت وتتفاعل دون توقف. وكذلك الإنسان حين ندرسه نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا... الخ، هو لا يعمل بهذا الشكل، بل يتداخل النفسي والفكري والاقتصادي...
رباب:
صحيح،.لذلك القرآن أحكامه متداخلة، لأنه يتماشى مع طبيعة الحياة وتركيبة الإنسان. ومهمة الإنسان أن يحلل ويركب الأنساق بقدراته ومواهبه العقلية، ليخرج بأنساق تريح عقله وتساعده على فهم العالم وتعطيه خارطة واضحة للتحرك.
المعلم:
صحيح، بوركت.