استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الناهض الرباني في ضوء آية الاستقامة

تدبر في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]

تحمل هذه الآية الكريمة في طياتها دستوراً متكاملاً للنهضة الربانية، فهي تؤسس لشخصية ناهضة بأمتها، واثقة الخطى، ثابتة المنهج، مطمئنة النفس. وقد جمعت الآية بين التأسيس العقدي والتطبيق العملي، مع بيان الثمرة النفسية والروحية لهذا المنهج الرباني.

 أولاً: التأسيس المنهجي "قالوا ربنا الله"

يقول سيد قطب رحمه الله: "وقولة: (ربنا الله).. ليست كلمة تقال. بل إنها ليست مجرد عقيدة في الضمير. إنما هي منهج كامل للحياة، يشمل كل نشاط فيها وكل اتجاه، وكل حركة وكل خالجة؛ ويقيم ميزانا للتفكير والشعور، وللناس والأشياء، وللأعمال والأحداث، وللروابط والوشائج في كل هذا الوجود."

وتحمل كلمة "ربنا" في طياتها معاني التربية والربانية، فهي تؤسس لمنهج تربوي متكامل يشمل:

  • - تربية العقل بالمعرفة
  • - تربية القلب بالإيمان
  • - تربية النفس بالتزكية
  • - تربية السلوك بالقيم

ثانياً: الانتقال إلى الاستقامة العملية "ثم استقاموا"

يكشف ابن عاشور رحمه الله عن سر استخدام "ثم" في الآية بقوله: "{ثمَّ} للتراخي الرتبي: وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة."

ويوضح البقاعي رحمه الله صعوبة تحقيق الاستقامة بقوله: "ولما كانت الاستقامة -وهي الثبات على كل ما يرضي الله- مع ترتبها على التوحيد- عزيزة المنال علية الرتبة، وكانت في الغالب لا تنال إلا بعد منازلات طويلة ومجاهدات شديدة."

وفي تفسير الماتريدي رحمه الله إشارة إلى شمول الاستقامة حين قال: "{قالوا ربنا الله ثم استقاموا} بحق الوفاء بالعمل بما أعطوا بلسانهم وقلوبهم."

 ثالثاً: الأبعاد اللغوية للاستقامة

يكشف ابن فارس رحمه الله عن الأبعاد اللغوية العميقة للاستقامة في قوله: "قامَ قياماً... إذا انتصب" و"يكون قامَ بمعنى العَزيمة، كما يقال: قامَ بهذا الأمر، إذا اعتنَقَه." فالاستقامة تجمع بين:

  • - الانتصاب: وضوح المنهج واستقامته
  • - العزيمة: قوة الإرادة في الالتزام
  • - الاعتناق: التبني الكامل للمنهج

 رابعاً: البعد الروحي في الاستقامة

يضيف القشيري رحمه الله بُعداً روحياً عميقاً في فهم الاستقامة بقوله: "وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى الله تعالى في أن يُقيمَه على الحق، ويُثَبِّتُه على الصدق." وهذا يكشف أن المستقيم:

  • - مدرك لضعفه
  • - مفتقر إلى ربه
  • - دائم الالتجاء
  • - مستمر في طلب العون والتثبيت

خامساً: ثمرة الاستقامة "فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"

جاءت الثمرة في صيغتين لغويتين دقيقتين:
  • - الخوف: جاء مصدراً، يفيد الشمول ونفي أصل الخوف
  • - الحزن: جاء فعلاً مضارعاً، يفيد التجدد واستمرار نفي الحزن

سادساً: التناسق في السورة

تتجلى الاستقامة في موضعين من السورة:
  1. في الآية 13 : "ثم استقاموا" كفعل يدل على الحركة والسعي
  2. في الآية 30 : "طريق مستقيم" كوصف للمنهج والطريق
وهذا التناسق يكشف عن تكامل بين :
  • - هداية الله للطريق المستقيم
  • - سعي العبد للاستقامة عليه

 خاتمة : ملامح الناهض الرباني

يتجلى من خلال هذا التدبر أن الناهض الرباني يتميز بأنه:
  1. يستقي قيمه من الوحي
  2. يسير على منهج مستقيم واضح
  3. ثابت على مبادئه
  4. مطمئن النفس
  5. مستمر في العطاء

وبهذا تكون الآية قد رسمت منهجاً متكاملاً للنهضة الربانية التي تجمع بين وضوح الغاية وسلامة المنهج وطمأنينة النفس.




كتب حسان الحميني

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.