مدخل
تمثل الآيات الأولى من سورة العلق منطلقاً تأسيسياً للنهضة الحضارية في الإسلام، حيث تؤسس لمنهج معرفي متكامل يبدأ بالقراءة وينتهي بالتحرر من الطغيان. وفي هذا المقال نتأمل في الأبعاد المعرفية والحضارية لهذا المنهج الإلهي.
المعنى اللغوي للقراءة وأبعاده
الجمع والضم
يكشف لنا الفيروز آبادي في القاموس المحيط عن المعنى الأصلي للقراءة بقوله: "وقرأت الكتاب قراءَة وقُرآنا. ومنه سمّى القرآن لأَنه يجمع السّور فيضمَّها وقيل: سُمّى به لأَنَّه جُمع فيه القصص والأَمر والنهى والوعد والوعيد". فالقراءة في أصلها جمع وضم.
خصوصية القراءة
يدقق الراغب الأصفهاني هذا المعنى بقوله: "القراءة: ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في التّرتيل، [وليس يقال ذلك لكلّ جمع]". فهي جمع مخصوص منظم وهادف.
الاتساع في المعنى
يتسع معنى القراءة ليشمل كل جمع منظم هادف، فالقرية من هذا الأصل لجمعها الناس، والقِرى (الضيافة) لجمعه الضيف والمضيف، والاستقراء لجمعه المعطيات والظواهر في منهج علمي متكامل.
أبعاد القراءة المعرفية
القراءة كمنهج معرفي
يوضح حسين فضل الله هذا البعد بقوله: "القراءة مبتدأ المعرفة: {اقْرَأْ} لأن القراءة هي مبتدأ معرفتك بالرسالة... كما هي الدعوة إلى أن يكون هذا الدين انطلاقةً في آفاق العلم الذي ينطلق من القراءة الواسعة في كتاب الله المفتوح".
القراءة والخلق
يلفت الزمخشري النظر إلى العلاقة بين القراءة والخلق في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، حيث حذف المفعول به في "خلق" للتعميم والشمول، فكأنه يفتح آفاق القراءة على كل المخلوقات.
التعلق المعرفي
يكشف ابن فارس عن بعد عميق في مادة "علق" بقوله: "العين واللام والقاف أصلٌ كبير صحيح يرجع إلى معنىً واحد، وهو أن يناط الشَّيء بالشيء العالي". وهذا يؤسس لفهم طبيعة العقل كمحل تتعلق به المعاني والخصائص، لتتشكل منها المفاهيم التي هي لبنات الثقافة والحضارة.
التكامل المعرفي والتحرر الحضاري
القراءة والقلم
يشكل القلم امتداداً طبيعياً لعملية القراءة، فهو يخط مخرجاتها ويحفظها عبرة للسائلين، مؤسساً بذلك لتراكم معرفي حضاري.
المعرفة والتحرر
تكشف خاتمة السورة {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} عن الغاية الكبرى لهذا النظام المعرفي: تحرير الإنسان من الطغيان. فالقراءة تحرر العقل، والعلم يحرر الفكر، والمعرفة تحرر الإنسان.
مرتكزات النهضة الحضارية
تؤسس الآيات لمرتكزات أساسية في أي نهضة حضارية:
1. المنهج المعرفي (القراءة)
2. الأداة المعرفية (العقل والقلم)
3. الغاية التحررية (رفض الطغيان)
4. البعد الحضاري (العمران والإبداع)
خاتمة
إن المتأمل في هذه الآيات يجد نفسه أمام منهج متكامل للنهضة الحضارية، يبدأ بالقراءة كمنهج معرفي، ويمر بالعقل والقلم كأدوات معرفية، وينتهي بالتحرر من الطغيان كغاية حضارية. وهذا ما يجعل من هذه الآيات دستوراً للنهضة وأساساً للعمران.
كتابة: حسان الحميني