تمثل الآية الكريمة من سورة المجادلة منهجاً متكاملاً في بناء النهضة العلمية والحضارية، حيث يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
المنهج التربوي في الآية
يقدم سيد قطب رحمه الله رؤية عميقة للمنهج التربوي في هذه الآية بقوله: "وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة. فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير."
هذا التفسير يؤكد أن الآية تؤسس لتحول نفسي وسلوكي عميق في التعامل مع العلم ومجالسه.
- العلم ليس مجرد تحصيل معرفي بل تحول في الشعور
- التربية القرآنية تعتمد التشويق وليس الإلزام فقط
- الهدف النهائي هو بناء حساسية في الضمير تجاه العلم وآدابه
مراتب الفضل والرفعة
يقدم الإمام البقاعي رحمه الله تحليلاً دقيقاً لمراتب الفضل في قوله: "ولما كان المؤمن قد لا يكون من المشهورين بالعلم قال: {والذين} ولما كان العلم في نفسه كافياً في الإعلاء من غير نظر إلى مؤت معين، بنى للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي وهم مؤمنون {درجات}، درجة بامتثال الأمر وأخرى بالإيمان، ودرجة بفضل علمهم وسابقتهم."
ويبين هذا التحليل ثلاث درجات للرفعة :
- العلم قيمة في ذاته بغض النظر عن حامله
- تعدد مسارات الرفعة: الإيمان، الامتثال، والتحصيل العلمي
- أهمية الجمع بين الإيمان والعلم
شمولية المفهوم وامتداده
يؤكد الإمام مالك رضي الله عنه امتداد هذا المفهوم وشموليته بقوله: "إن الآية في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسنا هذه، وإن الآية عامة في كل مجلس." ويضيف في تفسير قوله تعالى {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}: "إن قوله: {يرفع الله الذين آمنوا} الصحابة، {والذين أوتوا العلم درجات}، يرفع الله بها العالم والطالب للحق."
- شمول الحكم لكل مجالس العلم عبر العصور
- المساواة في الفضل بين العالِم وطالب العلم
- استمرارية هذا المنهج من عصر النبوة إلى يومنا
ويؤكد ابن عطية رحمه الله هذا المعنى بقوله: "السبب مجلس النبي عليه السلام، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات."
- المرونة في تطبيق مفهوم مجالس العلم
- شمول الحكم لكل ما فيه طاعة وتعلم
- قابلية النص لاستيعاب المستجدات في كل عصر
الدلالات الحضارية المعاصرة
تقدم الآية إشارات مهمة للنهضة الحضارية المعاصرة:
1. البنية التحتية للعلم:
- ضرورة توفير المساحات المناسبة للتعلم
- أهمية تنظيم المجالس العلمية
- مراعاة الاحتياجات المتزايدة لطلاب العلم
2. التكامل بين التقليدي والمعاصر:
- امتداد مفهوم "المجالس" ليشمل المنصات الرقمية
- الحلول السحابية كامتداد عصري للتوسع والتنظيم
- الحفاظ على روح العلم مع تطور وسائله
3. القيم الأساسية:
- احترام العلم والعلماء
- تشجيع السعي للمعرفة
- التكامل بين الإيمان والعلم
كذلك تؤسس الآية ومجموع تفسيرات العلماء لها لمنهج متكامل في النهضة العلمية يقوم على:
- التهيئة المادية (توفير المساحات والوسائل)
- التهيئة المعنوية (التشويق والترغيب)
- التهيئة السلوكية (آداب المجالس)
- التهيئة الروحية (ربط العلم بالإيمان)
خاتمة
تؤسس الآية لمنهج حضاري متكامل في التعامل مع العلم ومجالسه، يتسم بالمرونة والقدرة على مواكبة التطور مع الحفاظ على القيم الأساسية. وهذا المنهج صالح للتطبيق في كل عصر، سواء في المجالس التقليدية أو المنصات الرقمية المعاصرة، ما دامت تحقق مقصد العلم والتعلم.
والله الموفق،
كتب حسان الحميني