استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الكمال بين التفصيل والشمول

في بداية الحضارة البشرية كان الإنسان منفتحا على كل المعارف شغوفا بكل الخبرات.. 

طالما أنه يفكر بعقل سليم يستطيع منطقة الظواهر وإيجاد روابط فلسفية لها.. 

وهذه كرامة الإنسان وفطرته.. 

كانت الحضارة الإنسانية كل لا يتجزأ؛ فالعارف بالإله خلوق وهو بالضرورة مثقف راقي العقل ولديه من الحكمة ما ينفع به من حوله وقد انتهت إليه معارف لم تنته إلى غيره.. 

واستمرت هذه الظاهرة الكلية للحضارة ملازمة للإنسان على اختلاف الأزمان والجغرافيا وتنوع الحضارات.. 

ففي حضارتنا نماذج كثيرة لعلماء شملت معارفهم العلوم كلها والدين على رأسها وإن كانوا برعوا في مجال بعينه.. 

الرازي وابن سينا وابن حيان وغيرهم..

في ثقافات الأمم قبلنا كان أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وغيرهم قبلة لكل العلوم والدين والأخلاق..

حتى جاءت العصور الوسطى في أوروبا بدءا من مجمع نيقية وسيطرت الكنيسة على مقاليد الحكم واحتكرت المعرفة قسرا ووصاية لا علما.. 

وغرقت أوروبا في أوحال الجهل والظلام والقذارة والقمع.. 

ثم تمرد الثوار المثقفون على الكنيسة بدعوى العلمانية ثم هوت المركسية التي استخدمها الساسة  سوطا لقمع الشعوب.. 

ثم امتدت الأطماع لتعبر الحدود وتمد القوة سيفها للإغارة على أقاليم أخرى طمعا في ثرواتها.. 

هنا انفصلت عرى الحضار الإنسانية تماما  وتفرقت بين الناس.. 

فنجد العالم الذي لا دين له ووجدنا الثائر الذي لا علم له والسياسي الذي لا علم له ولا خلق ولا دين وهكذا.. 

ثم انتهت حقبة الاستعمار وبقيت الحضارة ممزقة في الشعوب وبين الأفراد حتى صار هذا العرض عرفا وواقعا مقننا.. 

وهنا جاءت التخصصية والولع بالتفاصيل وفسيفساء العلوم والتخصصات الدقيقة.. 

ولا علاقة للعلم بالدين ولا علاقة للوجاهة بالأخلاق..

وأيضا لا علاقة للعلم المتخصص بالعلوم الأخرى..

كل يسبح في ملكوته وكأن الكوكب يدور في فلكه من منظور اختصاصه الضيق فقط.. 

اندثرت ميتافيزيقا العلوم وصار البحث عن أسباب الظواهر ضرب من الكفر أو التعنت أو وضع العصي في عجلات التطور.. 

لعل هذا الخلل نلمسه جميعا في حياتنا من انقطاع التخصصات.. 

الطبيب في تخصص لا يعرف تأثير بقية أعضاء الجسم على هذا الجزء المختص به وكأن هناك حرب غير معلنة بين أجزاء الجسم يحاول كل طبيب الانتصار لجزئه..

وفي النهاية يخسر الإنسان الضحية.. 

وعن الخير الكثير الذي يضيع بالانقطاع بين التخصصات والذي تكاثرت سيئاته حدث ولا  حرج.. 

حتى نادى الحكماء والفلاسفة المحدثون بدراسة التخصصات البينية والعلوم الجامعة؛ لرأب الصدع والتوفيق بين أجزاء الحضارة المتصارعة.. 

لكن السواد الأعظم من المثقفين مازال غارقا في التخصصية الدقيقة ولا يرى إلا من منظورها الضيق.. 

نحن اليوم في عصر الوفرة المعلوماتية والطوفان الهادر للتقنية الذي يتغير كل ثانية فلا يكاد الإغراق يجدي.. 

لعل البراعة في التخصص تبقى منقوصة مالم يكن المتخصص ملما بجميع جوانب النهضة الحضارية المتجددة التي يمكن أن ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر باختصاصه.. 

ليتني أستطيع أن أؤذن في آذان أبناء أمتنا المجتهدين المنكفئين على تخصصاتهم حتى انحنت ظهورهم من عقبتهم الكؤود التي تتثاقل عليهم يوما بعد يوم فلا تكاد الهرولة تجدي الطامع في اللحاق.. 

وأقول لهم: ارفعوا أعينكم قليلا عن فسيفساء علومكم وانظروا مد البصر إلى شبكات الروابط التي تتصل بتخصصكم لتشمل الكون بأسره.. 

لنكون أكثر نفعا وأبعد أثرا وأسرع في إحداث الفارق؛ يجب أن نتخلى عن الإغراق في التخصص وتكون صدورنا رحبة لشمولية الحضارة الإنسانية بكافة صورها..

لعل الفوضى المنتشرة بين المتخصصين اليوم وانتزاع التخصصات مواضع قدم في ركب التطور خير مبشر على انتهاء عصر الانقطاع الحضاري بين التخصصات واقتراب أوان ميلاد عصر يكثر خيره ويعم نفعه بكد الإنسان السوي.. 

يوما قريبا سنعود كما كنا؛ كما خلقنا الله رحمة للعالمين معمرين الأرض كلها بكل ظواهرها وبواطنها بالخير كل وما يستطيعه بلا حدود ولا قيود.. 
الحرية في الفكر والتعلم والحياة والبناء والبحث أساس النهضة وبوابة الحضارة.. 
غدا أجمل بفتح الأبواب وتخطي الحواجر والقيود.. لم لا؟ 


فاطمة بنت الرفاعي

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.