جوهرة نادرة تدحرجت من فيه علم عظيم يصدق عليه الأثر : "من عمل بما علم آتاه الله مالم يعلم "
الاحتياجات فطرة كل حي ورمانة ميزان الحياة ..
فنهاية الاحتياجات دلالة الموت والسكون الأخير..
والاضطراب والحركة للحصول عليها رمز الحياة ..
لكن العدالة والحكمة تقتضي تلبية بعض الاحتياج وليس كله ..
فمثلا الجوع حاجة الطعام ولكن الصواب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بحسب ابن آدم بضع لقيمات يقمن صلبه"
فلو اتخم الإنسان مرض وقسى قلبه ؛ ومن يموتون بالسمنة حول العالم أكثر ممن يكوتون جوعا..
وقد مدح الله قوما : " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا"
وكذلك امتلاك المال والغنى حاجة مكسورة ببذله للزكاة وقد كان شرط سمو النفس في البذل أن يكون مما يحب الإنسان قال تعالى : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"
لماذا تعلو نسب الانتحار في أكثر البلاد غنى إذا كان الغنى يكفل السعادة؟
أيضا الاطلاع على ما سيحدث مستقبلا والاطمئنان لعواقب اليوم وغدا حاجة ؛ ولكن الله أطلعنا على كليات الغيب كيوم القيامة وأهواله والحساب والجزاء والجنة والنار وخفي عنا تفاصيل حياة كل شخص ، مع أن قدره قد كتب وهو في بطن أمه وحرم علينا الاستماع للكهنة والمنجمين ومدعي علم الغيب ..
يحكى أن رجل فاحش الثراء بحث عن عراف يتنبأ له بمستقبله على أن يدفع له ما يريد وأخيرا عثر على أحدهم وبعد نقاش طويل اتفقا على أن يتنبأ العراف لهذا الرجل بعشر سنوات فقط من مستقبل عمره مقابل مبلغ كبير من المال..
وافق الرجل وبدأ العراف يقص عليه تفاصيل غده حتى انتهى من أحداث السنوات العشر ..
أخذ العراف ماله وذهب أما الرجل ففكر طويل وتأمل مستقبله فلم يجد فيه ما يعجبه فقرر الانتحار ..
الحرمان من بعض الاحتياجات نعمة وقد فرض علينا بعض الحرمان لنستعيد اتزاننا كالصوم والزكاة مثلا ..
لو لبى الإنسان بعض حاجته حد الكمال فحتما لن يستطيع الوفاء بالأخرى ولا بالقليل منها ..
وقد مدح الله قوما يعبدون الله ويخشون ألا يقبل منهم : "الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون"
فماذا أورث هذا الشعور ببعض التقصير :" أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون"
والرحمة والتلطف من الرحمن لعباده وافرة مع هذا الإسراع في الخير : " ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون"
ورحم الله ابن عطاء الله السكندري القائل: (رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعة أورثت عزّاً واستكباراً).
حتى الإحساس بالأمان المطلق يورث البطش والإجرام ولم يوصف به إلا الكافرين ..
قال تعالى: " (أَفَأَمِنتُمۡ أَن یَخۡسِفَ بِكُمۡ جَانِبَ ٱلۡبَرِّ أَوۡ یُرۡسِلَ عَلَیۡكُمۡ حَاصِبࣰا ثُمَّ لَا تَجِدُوا۟ لَكُمۡ وَكِیلًا أَمۡ أَمِنتُمۡ أَن یُعِیدَكُمۡ فِیهِ تَارَةً أُخۡرَىٰ فَیُرۡسِلَ عَلَیۡكُمۡ قَاصِفࣰا مِّنَ ٱلرِّیحِ فَیُغۡرِقَكُم بِمَا كَفَرۡتُمۡ ثُمَّ لَا تَجِدُوا۟ لَكُمۡ عَلَیۡنَا بِهِۦ تَبِیعࣰا)
لذا كان الأمان جائرة المتقين الكبرى : (إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونٍ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَـٰمٍ ءَامِنِینَ)
ومن سنن الله في الكون أن الحق والباطل في هذه الدنيا متصارعان إلى يوم القيامة وحكمة الله أن يكون الباطل دائما أقوى وأغنى وأكثر من الحق ؛ ويبقى الحافز لدى أهل الحق يحثهم خلف هزيمة الباطل ودحر شره حيث كان ..
وكل قصص التاريخ منذ بدء الخليقة تحكي هذا وصارعات الأنبياء والمرسلين ومن خلفهم ..
ففي قصة داود عليه السلام :" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين "
وفي زمان المصطفى صلى الله عليه وسلم : (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ إِن یَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَـٰبِرُونَ یَغۡلِبُوا۟ مِا۟ئَتَیۡنِۚ وَإِن یَكُن مِّنكُم مِّا۟ئَةࣱ یَغۡلِبُوۤا۟ أَلۡفࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمࣱ لَّا یَفۡقَهُونَ)
وهكذا تبقى الاحتياجات ناقصة وليست معدومة والأمنيات بعضها محقق وبعضها مؤجل ..
حتى عبادتنا لله واتصالنا به حاجة نطلب الأمان والرحمة والتوفيق والرزق والرضا والجنة ..
في الدنيا يلبي الله لكل شخص بعض حاجاته حتى للكافر قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا۟ فِی ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ یُشۡرِكُون)
وهذا دليل ربوبية يستدل بها الإنسان على ربه ويستشعر تلطفه به ورحمته ويهرع إليه فطرة واحتياجا..
والمتأمل يدرك أن إشباع الحاجات والبحث عن اكتمالها أول طريق الانحراف..
فمتعاطي المسكرات يبحث عن السعادة المطلقة..
السفاح يبحث عن السلطة المطلقة..
واللص يبحث عن الغنى الفاحش المطلق ..
وقس على ذلك ..
وكذلك أول خطوات تصحيح مسار هؤلاء جميعا إذا كتب الله لهم النجاة ؛ تكون بإدراك أن إشباع هذه الحاجة ليست هي المورثة للرضا ولا المحدثة للاتزان الحياتي له..
في قصة الرجل الذي جاء طالب من الرسول صلى الله عليه وسلم ان يأذن له بالزنى لم يكبح النبي صلى الله عليه وسلم جماحه ولم يقمعه ولم ينهره ولكن غير إدراكه ببشاعة هذا لو حدث لمحارمه حيث لا يمكن أن يكون هذا سبيل للرضا ودعى له بالصلاح ..
وفي قصة أبي محجن الذي ظل يعاقر الخمر ويحبس حتى يوم القادسية حين فر من حبسه وكان بين صفوف الأبطال فأدرك أن السعادة والرضا ليس في كأس ودن بل أسمى من ذلك ..
وغالبا هؤلاء المتبصرين بعد طول تخبط وانحراف يكون تبصرهم صادقا ودافعا قويا لهم في دروب الخير لأنهم يدركون حاجاتهم الأخرى المهملة التي غفلوا عنها وهم يشبعون حاجة واحدة ولم يجدوا في درب إشباعها إلا المهالك ..
يوسف الصالح رحمه الله وغمد روحه الجنة كان متعاطيا للمخدرات سنوات طوال وفي لحظة أدرك وتبصر حين رأى أن الكلب ينظر إليه باحتقار وهو ملقا قرب حاوية نفايات على حد وصفه..
أدرك حينها أن الحياة أسمى من الوحل الذي يغوص فيه ولم يجد فيه إلا الشقاء رغم أنه بلغ فيه مبلغا بعيدا؛ فقرر التعافي ودرس وتعلم وصار أشهر معالج للمدمنين وقضى بقية عمره هكذا حتى مات رحمه الله..
ربما لو أعطانا الله كل ما نتطلب لما احتجنا إلى الدعاء ولو ملكنا في الدنيا كل شيء فلماذا مشتاق للجنة ونطمح إليه ونعمل ونحتمل لندخلها ..
لكن ..
واجب على كل فرد منا الرفق بمن حوله وتقدير حاجاته والرحمة بآلامه والتربيت على ضعفه وستر عيوبه وإيناس وحشته ..
فلولا هذا لصارت الدنيا جحيما على أهلها..
فخير الناس أنفعهم للناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
رفقا بعباد الله وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء..
بقلم : فاطمة بنت الرفاعي