استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الثقافة السياسية ونموذج الدولة الحديثة

منذ بداية نشأة الدولة القطرية شهدت دول العالم الإسلامي بشكل عام، والدول العربية بشكل خاص، ظهور حالات متكررة من عدم الاستقرار السياسي، نتيجة لغياب قاعدة ثقافية سياسية جماهيرية تضمن تحقيق حالة من الانسجام بين النظام السياسي والشعب، أو بين الحاكم والمحكوم. كان هذا الغياب نتيجة تحكم استعماري وصعود أنظمة استبدادية وتراكمات تاريخية وفكرية طويلة من الجمود في الفكر السياسي، الأمر الذي أدى إلى تغييب الفرد العربي والمسلم عن المشاركة الفاعلة في معترك السياسة. فالفرد العربي خلال تلك الحقبة لم يتعود على نظام سياسي واضح للتداول السلمي للسلطة ويمارس حقه السياسي في اختيار من يحكمه 
وفي سعيها نحو التحديث، حاولت تلك الدول استلهام نماذج سياسية واقتصادية مستوردة، مثل الاشتراكية، والجمهورية، والرأسمالية. ومع ذلك، فإن هذه النماذج فشلت في تحقيق الأهداف المرجوة، لأنها لم تنبع من واقع المنطقة العربية، ولم تراعِ خصوصياتها الثقافية والاجتماعية. وكيف لا تفشل فقد، كانت تلك النماذج تعبر عن بيئات فكرية وسياسية مختلفة، ما جعلها غير ملائمة للبيئة الثقافية العربية. 
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 ظهرت محاولات لتطوير الثقافة السياسية وتعزيز المشاركة الشعبية، والتي عكست رغبة قوية في التغيير وإصلاح النظام السياسي في العديد من الدول. ساعدت هذه التحركات في رفع الوعي السياسي لدى بعض فئات في المجتمع، ولكنها في الوقت نفسه واجهت تحديات كبيرة مثل القمع السياسي، وانعدام الاستقرار، والصراعات الداخلية.

المفاهيم 

1-مفهوم الثقافة السياسية 

يعرف كمال المنوفي الثقافة السياسية بأنها "مجموعة القيم المستقرة التي تتعلق بنظرة المواطن إلى السلطة، والتي تُعَدُّ مسؤولة إلى حدٍّ بعيد عن درجة شرعية النظام القائم، فالثقافة السياسية تؤثر في علاقة المواطن بالسلطة من حيث تحديد الأدوار والأنشطة المتوقعة من السلطة، ومن حيث طبيعة الواجبات التي يتعين على المواطن القيام بها، كما أن الثقافة السياسية تتضمن التفاصيل الخاصة بهوية الفرد والجماعة 
ويمكن تعريفها بأنها مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات التي يحملها الأفراد والمجتمع تجاه النظام السياسي، والتي تؤثر على كيفية فهمهم ومشاركتهم في العملية السياسية. تتعلق هذه الثقافة بالمواقف تجاه المؤسسات السياسية، والمسؤوليات المدنية، والأدوار التي يلعبها المواطنون داخل النظام.

2-مفهوم الدولة الحديثة 

ان مفهوم الدولة الحديثة لا يزال مثار جدل وخلاف في الفكرين العربي الإسلامي والغربي المعاصر و بين الدول المستوردة والمصدرة له، وخاصة الدول العربية والإسلامية، حيث يرى أصحاب الفكرة أن الدين بشكل عام يصطدم مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة، وهو ما أثار فزعاً وحساسية من المفهوم الوليد والحديث للدولة، ونتج عنه انقسام المجتمع الإسلامي إلى فريقين ما يزالان يخوضان سجالاً يساهم في بلورة هذا المفهوم، حيث يرى الفريق الأول أنه يعني استبعاد الشريعة الإسلامية من الحاكمية، وعلمنة الدولة، بينما يرى الفريق الثاني أن هذا المفهوم المدني للدولة لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية التي أقرت مبدأ العدالة والمساواة، والمسؤولية، والشورى، وحفظت حقوق الأقليات، وشددت على ذلك، بل ومارست ذلك عملياً على مدى قرون.
وهناك من يرى، أن الأمة العربية لم تصل بعد لمستوى مفهوم وفلسفة الدولة الحديثة في الغرب، فالدولة العربية الحديثة تمتلك عناصر شكل الدولة: الجغرافيا والسكان والسلطة، وربما السيادة، لكنها لا تمتلك لمظاهر مضمون بقاء الدولة: المجتمع المدني المعاصر، الديمقراطية، المواطنة، حقوق المرأة، الانتقال السلمي للسلطة، حقوق الانسان، التنمية الاقتصادية.. الخ 
وتعرف الدولة الحديثة بأنها دولة تقوم على السياسة العقلية القائمة على تعدد مصادر التشريع والقوانين، والمؤسسة على العدل، والحرية، والمساواة، والمواطنة، وحقوق الإنسان، وهذه الأسس والقواعد ليس لها أي قداسة جعلتها معصومة من النقد والتغيري، ويكون نظام الحكم ذا طبيعية مدنية بشرية، يعترف بأصله الإنساني ويقوم على السياسة. العقلية الخاضعة لضمانات وضوابط موضوعية، لا مكان فيها للحديث عن قداسة وتقوى زائفة ويؤكد أصحاب هذا التعريف، أنها لا تعني الدولة العلمانية: أو اللادينية: كما يدعي أهل الغرض، بل تقوم على أسس وقواعد تنظم المجتمع والدولة على أسس عقلية ومدنية، وهي لا تتعارض أو تتناقض مع الدين، بل أنها تحقق مقاصد الدين وتستهدي بقيم وأخلاق الدين في سلوك وعمل موظفي الدولة 
ويمكن تعريف الدولة الحديثة بأنها كيان سياسي يتمتع بالسيادة على منطقة جغرافية محددة وسكانها، وتتميز بمؤسسات مستقرة ونظام قانوني يدير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويستند إلى مبادئ المواطنة والمساواة بين جميع الأفراد.

الثقافة السياسية الحالية (النموذج القائم) والمتطلبات الحديثة (النموذج المطلوب): 

تعد الثقافة السياسية زاوية النظر الأساسية لفهم الأنظمة السياسية، إذ تُؤثر بشكل عميق على مسار التنمية السياسية والاجتماعية. ففي الدول العربية والإسلامية كما سبق وذكرنا   يعاني النموذج القائم للأنظمة السياسية من مجموعة من التحديات الهيكلية والثقافية التي تُعيق تحقيق الحوكمة الرشيدة والمشاركة الفعالة في صنع القرار. وخلال هذا المبحث سنستعرض الثقافة السياسية للنموذج الثقافة السياسية القائم في المنطقة العربية والنموذج المطلوب والمقارنة بينهما من حيث القيم التي يتبناها كل نموذج 

1- النموذج القائم: الممارسات الثقافية والسياسية الحالية

يمكن النظر اليه من المحاور التالية:
نظام سلطوي مركزي: النموذج القائم في معظم الدول العربية والإسلامية يتسم بتركيز السلطة في يد النخب السياسية أو الفئات المؤثرة، سواء كانت دينية، عشائرية، أو حزبية. هذا النظام يعزز منطق الولاءات الضيقة، ويعمق الانقسامات الطائفية أو العرقية، مما يُعرقل تحقيق وحدة وطنية شاملة. وفي هذا السياق، تُكرّس السلطة لصالح فئات معينة، ما يؤدي إلى تغييب دور المواطن في عملية اتخاذ القرارات السياسية
المؤسسات السياسية: في النموذج القائم، تُدار الانتخابات كطقوس شكلية، حيث يتم فرض نتائج انتخابية مسبقة لصالح النظام الحاكم. فغالبًا ما تُحقق القيادات السياسية العربية نسب فوز تتجاوز 99%، وهو ما يعكس غياب الشفافية والمصداقية في العملية الانتخابية. الانتخابات لا تعد وسيلة للتعبير عن إرادة الشعب، بل أداة لتكريس النظام السلطوي وتعزيز شرعيته من خلال شكليات تُخفي غياب المشاركة الفعالة.
الثقافة السياسية: في النموذج القائم تعزز الفردية في السلطة من خلال تمجيد "البطل الفردي" أو "القائد الملهم"، الذي يُعتبر المنقذ الوحيد للأزمات، بينما تغيب مفاهيم العمل الجماعي والقيادة القائمة على الخدمة العامة. كما أن الخطاب الشعبي والنخبوي يفتقران إلى قيم الحوار، مما يُعمق الانقسامات ويضعف التوافق المجتمعي.
ثقافة المواطنة الناقصة: المجتمعات العربية تعاني من نقص في مفاهيم محورية مثل الالتزام بالقانون، الشورى، المصلحة العامة، الديمقراطية، والتعددية. هذا النقص يساهم في ضعف الروابط الوطنية، ويعزز الانقسامات الاجتماعية. غياب هذه المبادئ يؤدي إلى عدم تكافؤ الفرص والحقوق بين المواطنين، وتجاهل حقوق الأقليات، مما يعوق تقدم المجتمع نحو المواطنة الكاملة.
المؤسسات العامة: غياب الالتزام بأخلاقيات العمل والإدارة الرشيدة، تتحول مؤسسات الدولة إلى أدوات بيروقراطية غير فعالة، حيث تُهدر الموارد ويُهمش المواطن. هذا الواقع يساهم في انتشار الفساد الإداري وضعف الثقة بين المواطن والمؤسسات.
يظهر ان النموذج القائم يؤدي إلى غياب الحوكمة الفاعلة، حيث تُختزل السياسة في إطار من المصالح الفردية أو الفئوية. العلاقات بين الأطراف السياسية غالبًا ما تتسم بالتنافر، مما يؤدي إلى الأزمات الدورية والصراعات التي تعيق التنمية المستدامة.

2-النموذج المطلوب: ثقافة سياسية ديمقراطية ومجتمع تعددي

النموذج المطلوب يتطلب تحولًا جذريًا في البنية الثقافية والسياسية للمجتمع. هذا النموذج يسعى إلى بناء ثقافة سياسية قائمة على المشاركة والتعددية، حيث تُدار الدولة بمبادئ الشفافية والمساءلة، ويصبح المواطن محور العملية السياسية ويمكننا النظر الى هذا النموذج من خلال المحاور التالية:
  • قيم المواطنة والمشاركة: ثقافة المواطنة في النموذج المطلوب تقوم على احترام القانون والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الفكرية. المشاركة السياسية تُعتبر حقًا أصيلًا ومسؤولية جماعية.
  • الشورى او الديمقراطية كثقافة: فالديمقراطية في هذا النموذج ليست مجرد آلية انتخابية، بل ثقافة سياسية راسخة تُمكّن المواطنين من المشاركة في صناعة القرار. يقوم هذا النموذج على ضمان الشفافية والمساءلة في جميع مؤسسات الدولة، ويُحترم فيه حق المعارضة والتعبير عن الرأي المختلف. الديمقراطية هنا تتجاوز التصويت في الانتخابات لتشمل التفاعل السياسي اليومي بين الحكومة والشعب.
  • الإصلاح المؤسسي والثقافي: يتطلب الانتقال إلى النموذج المطلوب إصلاحات جذرية في النظام التعليمي، ليُركز على ترسيخ القيم المدنية مثل احترام القانون، العمل الجماعي، والمصلحة العامة. إضافة إلى ذلك، يحتاج المجتمع إلى نظام قضائي مستقل وشفاف يضمن تحقيق العدالة والمساءلة.
  • تعزيز ثقافة الحوار: الحوار في النموذج المطلوب يُبنى على قبول الآخر واحترام الخلافات. يجب أن تتجاوز الخلافات السياسية مرحلة التخوين والاتهامات إلى مساحة التفاوض المثمر. هذه الثقافة تدفع باتجاه إبقاء النزاعات في إطار السجال السلمي والبناء، مما يُعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي.
  • القيم الأخلاقية والدينية: يتمثل دور الدين في هذا النموذج كإطار أخلاقي يعزز العدالة والكرامة الإنسانية، لا كأداة للهيمنة السياسية. القيم الدينية تُدمج مع القيم المدنية لتشكيل نظام سياسي مرن وقادر على التفاعل مع تحديات العصر.
عند النظر الى النموذجين، تظهر فجوة واسعة في طبيعة السلطة والثقافة السياسية. فالنموذج القائم يُكرّس الفردية والهيمنة والولاءات الضيقة، مما يُضعف الوحدة الوطنية ويزيد من هشاشة النظام السياسي. على الجانب الاخر، فالنموذج المطلوب يُركز على المشاركة الفعالة وبناء مؤسسات قوية تعزز المواطنة والشفافية.
تحقيق الانتقال من النموذج القائم إلى النموذج المطلوب يتطلب إرادة سياسية حقيقية وإصلاحًا ثقافيًا عميقا وثورة فكرية وثقافية تعيد تشكيل علاقة الحاكم بالمحكوم، يتوجب على النخب السياسية والمجتمعية تبني استراتيجيات تعليمية وإعلامية تهدف إلى غرس وتعزز قيم المواطنة والعدالة والمساواة.




اعداد:اسماعيل محمد صلاح

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.