في آية عميقة المعاني من سورة فصلت، يرسم القرآن الكريم معالم منهج التغيير وجوهر النهوض :
﴿مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحاٗ فَلِنَفْسِهِۦ وَمَنَ اَسَآءَ فَعَلَيْهَاۖ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلْعَبِيدِۖ ﴾[46]
دعوة صريحة للإنسان أن يكون محور التحول والإصلاح فلا نهضة بدون ناهض.
يقول ابن عطية رحمه الله: "الآية نصيحة بينة للعالم، وتحذير وترجية وصدع بأن الله تعالى لا يجعل شيئاً من عقوبات عبيده في غير موضعها، بل هو العادل المتفضل الذي يجازي كل عبد بتكسبه…"
1ـ الناهض: معمار النهضة
الناهض ليس مجرد متحدث أو مُنظّر، بل هو المهندس الحقيقي للتغيير. إنه شخصية محورية تحمل همّ الإصلاح، وتمتلك رؤية واضحة وإرادة قوية لإعادة الأمة إلى عنفوانها بعد وهنها.
جغرافية الناهض الروحية والفكرية
الناهض يمتد وجوده في مساحات متعددة:
- مساحة الذات: حيث يبدأ الإصلاح من الداخل
- مساحة المجتمع: حيث تتجسد رؤيته العملية
- مساحة الفكر: حيث ترسم استراتيجيات التغيير
- مساحة الروح: حيث يستمد قوته وإرادته
معالم الشخصية النهضوية
يتميز الناهض بخصائص فريدة تؤهله لحمل رسالة التغيير:
- * البصيرة النافذة
- يرى ما لا يراه الآخرون
- يستشرف المستقبل بعقلانية وعمق
- يقرأ الواقع قراءة نقدية بناءة
- يميز بين الظواهر وجوهر الأشياء
- * العزيمة الصلبة
- لا تنكسر أمام التحديات
- تتحول العقبات إلى فرص
- تصنع الإرادة من الصعاب منهجاً
- تجعل الاستمرار مبدأً استراتيجياً
- * العلم المتجدد
- يتسلح بالمعرفة المستمرة
- يجمع بين الأصالة والمعاصرة
- يوظف العلم في خدمة الرؤية
- يرى في العلم أداة تغيير وليس غاية
- * الأخلاق المتينة
- يحمل قيماً ثابتة
- يمارس العدل والأمانة
- يكون القدوة قبل الدعوة
- يترجم المبادئ إلى سلوك عملي
مهام الناهض الكبرى
- يضطلع الناهض بمهام جسام:
- إعادة رسم الخريطة الفكرية للمجتمع
- تحريك الطاقات الساكنة
- بعث الروح في المؤسسات
- إعادة صياغة المفاهيم والقيم
- فتح آفاق جديدة للتفكير والعمل
2- التزكية: جوهر العمل الصالح
"فلنفسه" - إشارة عميقة إلى أن العمل الصالح مسار للتزكية.
يقول البقاعي رحمه الله: "{فلنفسه} أي فنفع عمله لها ببركتها به لا يتعداها، والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص، فلذا عبر بها، وكان قياس العبارة في جانب الصلاح."
فالناهض يدرك أن النهضة تبدأ من الداخل، من تهذيب النفس وتنقيتها.
التزكية تعني:
- محاسبة الذات
- تطهير القلب
- تنقية الإرادة
- استشعار المسؤولية
3- الناهض والمسؤولية المجتمعية
يقول ابن عاشور رحمه الله: "وحرف (على) مؤذن بمؤاخذة وتحمُّل أعباء كما أن اللام في قوله: {فَلِنَفْسِهِ} مؤذن بالعطاء."
يتجاوز الناهض حدود الذات إلى المجتمع، فهو:
- قدوة حية
- مصدر إلهام
ـ محرك للهمم
ـ منبع الأمل
دوره يتمثل في:
- كشف مواطن الخلل
- اقتراح حلول واقعية
- تحفيز الطاقات
- بناء جسور التواصل
4- العمل الصالح: منهج وغاية
"عمل صالحاً" - ليست مجرد كلمات، بل منهج حياة. فالناهض يترجم رؤيته إلى أفعال ملموسة، يجمع بين العلم والعمل.
مقومات العمل الصالح:
- الإخلاص
- الإتقان
- الاستمرارية
- البعد عن الرياء
5- رؤية كونية للتغيير
وكما جاء في ختام سورة فصلت: "سَنُرِيهِمُۥٓ ءَايَٰتِنَا فِے اِ۬لَافَاقِ وَفِےٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّيٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمُۥٓ أَنَّهُ اُ۬لْحَقُّۖ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ شَهِيدٌۖ"،
فالناهض يدرك أن التغيير يكون باكتشاف السنن وتسخيرها :
- داخلياً (في النفس)
- خارجياً (في الآفاق)
6- الخاتمة: رسالة وأمل
الناهض رسول التغيير، حامل لواء الإصلاح. همته عالية، وعزيمته لا تلين. يعمل بإخلاص لنفسه ومجتمعه، مستشعراً عمق المسؤولية وعظمة الأمانة.
"من عمل صالحاً فلنفسه" دعوة للجميع أن يكونوا ذلك الناهض، وأن يحملوا مشعل التغيير بعزم وإيمان.
والله ولي التوفيق.
كتب حسان الحميني