استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

السنن الإلهية : منهج متكامل للنهضة


في قوله تعالى  (يُرِيدُ اُ۬للَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْۖ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞۖ) الآية 26 من سورة النساء، تظهر لنا حقيقة عظيمة في منهج النهضة والإعمار. فالله سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان في مسيرته نحو الإصلاح والتعمير يخبط خبط عشواء، بل هداه إلى سنن كونية واجتماعية تحكم حركة التاريخ والمجتمعات، تماماً كما تحكم سنن الله الفيزيائية حركة الأجرام والمادة.

ويبرز أثر هذا المنهج السنني في الآيتين اللاحقتين، فقوله تعالى ( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَّتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ اُ۬لذِينَ يَتَّبِعُونَ اَ۬لشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماٗۖ) (27) يكشف عن التقابل بين إرادتين : إرادة ربانية تهدف للهداية والتوبة وفق السنن، وإرادة شهوانية تسعى للانحراف عن هذه السنن. ثم يأتي قوله تعالى ( يُرِيدُ اُ۬للَّهُ أَنْ يُّخَفِّفَ عَنكُمْۖ وَخُلِقَ اَ۬لِانسَٰنُ ضَعِيفاٗۖ) (28) ليبين أن هذه السنن مراعية للفطرة البشرية وضعف الإنسان، فهي ليست تكاليف شاقة، بل هي منهج ميسر يراعي الطبيعة البشرية ويتناسب مع قدراتها.

 البيان والهداية : تأصيل منهجي

تظهر عظمة المنهج القرآني في ربطه بين البيان والهداية في هذه الآية، فالبيان يسبق الهداية ويمهد لها، وكأنه يؤسس لمنهجية علمية في التعامل مع السنن الإلهية. فالله سبحانه العليم الحكيم، كما يبين الإمام الطبري: "{وَاللّهُ عَلِيمٌ}: والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم، وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذرون ما أحلّ أو حرّم عليهم حافظ ذلك كله عليهم، حكيم بتدبيره فيهم في تصريفهم فيما صرفهم فيه" وهذا العلم الإلهي الشامل يتجلى في نظام السنن الذي يحكم حركة الكون والمجتمعات.

طبيعة السنن : قوانين حية فاعلة

هذه السنن ليست مجرد أحداث تاريخية نستعيد ذكراها، ولا هي قوانين جامدة نقلدها حرفياً. يقول ابن عطية: "ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين؛ إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهياً وأمراً، كما خوطبوا هم أيضاً في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم.
والأمر الثاني: أنّا هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة".
وكما يوضح ابن فارس أصل معنى السنن بقوله:"السين والنون أصلٌ واحد مطرد، وهو جريَان الشيء وإطرادُهُ في سهولة، والأصل قولهم سَنَنْتُ الماءَ على وجهي أَسُنُّهُ سَنَّاً، إذا أرسلتَه إرسالاً"، فهي قوانين حية تعمل في كل زمان ومكان، تحكم حركة المجتمعات بشكل تلقائي، سواء أدركها الناس أم لم يدركوها، وسواء رضوا بها أم لم يرضوا.

 ثنائية السنن: الإهلاك والإعمار

تتجسد السنن في وجهين متكاملين: سنن الإهلاك وسنن الإعمار. يقول الإمام الماتريدي: "ويحتمل قوله تعالى: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم} أي يبين لكم أن كيف كانت سنته في الذين خلوا من قبل في إهلاك من عاند الله ورسوله واستئصال من استأصلهم بتكذيب الرسل والأنبياء عليهم السلام والخلاف لهم كقوله تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} (الأحزاب 38) وقوله تعالى: {فقد مضت سنت الأولين} (الأنفال 38)"،
ويبين الشيخ السعدي سنن الإعمار بقوله: " {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل" فسنن الإهلاك تكشف عن العواقب الحتمية للعناد والمخالفة والظلم والطغيان، بينما تبين سنن الإعمار الطريق إلى النهضة والتمكين علما وعملا.

 التكامل بين السنن: حكمة إلهية

في هذا التكامل بين نوعي السنن تتجلى حكمة إلهية عظيمة، فالمصلح والناهض يحتاج إلى معرفة ما يجب تجنبه كما يحتاج إلى معرفة ما يجب اتباعه. يقول البقاعي: "{ويهديكم} أي يعرفكم {سنن} أي طرق {الذين} ولما كان المراد بعض الماضين قال: {من قبلكم}"

ويؤكد ابن عاشور الغاية التربوية من بيان السنن بقوله: "تذييل يقصد منه استئناس المؤمنين واستنزال نفوسهم إلى امتثال الأحكام المتقدّمة من أوّل السورة إلى هنا، فإنّها أحكام جمّة وأوامر ونواه تفضي إلى خلع عوائدَ ألفوها، وصرفِهم عن شهوات استباحوها، كما أشار إليه قوله بعد هذا {ويريد الذين يتبعون الشهوات} [النساء: 27]"،

المراحل الثلاث في التعامل مع السنن

إن الناهض بأمته لا يمكنه أن يكتفي بالحماس العاطفي أو المحاولات العشوائية، بل عليه أن يسلك مسلكاً علمياً دقيقاً في التعامل مع السنن. وهذا المسلك يتكون من ثلاث مراحل أساسية:

  • المرحلة الأولى هي الكشف عن السنن، وتتطلب تدبراً عميقاً في التاريخ والواقع، وقراءة واعية لحركة المجتمعات صعوداً وهبوطاً. هذه القراءة ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي بحث عن القوانين الحاكمة للحركة الاجتماعية والتاريخية. يقول سيد قطب: "فهذا المنهج هو منهج الله الذي سنه للمؤمنين جميعا. وهو منهج ثابت في أصوله، موحد في مبادئه، مطرد في غاياته وأهدافه.. هو منهج العصبة المؤمنة من قبل ومن بعد."
  • المرحلة الثانية هي فقه السنن، وهي مرحلة أعمق من مجرد الكشف عنها. في هذه المرحلة يتعمق الناهض في فهم آليات عمل السنن وشروط تفعيلها والعلاقات بين أسبابها ونتائجها. كما يدرك التوقيتات والظروف المناسبة لعمل كل سنة، فيفهم كيف يتعامل مع السنن بحكمة وبصيرة.
  • المرحلة الثالثة هي تسخير السنن، وهي المرحلة العملية التي تتوج المرحلتين السابقتين. هنا يقوم الناهض بتوظيف معرفته بالسنن وفقهه لها في مشروع النهضة والإصلاح. يتجنب ما يعارض السنن، ويتحرك وفق قوانينها، ويتعامل بوعي مع مقتضياتها.

تجديد العهد والحاجة المستمرة للهداية

وكما أن المؤمن يجدد في كل ركعة عهده مع الله بطلب الهداية في "اهدنا الصراط المستقيم"، فإن هذا التجديد يرتبط بحاجته المستمرة للهداية في كل موقف وحالة. فكل عثرة تحتاج إلى من يأخذ بيد العبد إلى ما فيه صلاحه، وكل تحدٍ يحتاج إلى هداية خاصة وفهم جديد لكيفية تطبيق السنن في ذلك الظرف المحدد.

اللطف الإلهي في بيان السنن

هذا المنهج في التعامل مع السنن يؤكد ما ذكره حسين فضل الله بقوله: "إنه اللطف الإلهي الذي يفيض بالرحمة والعطف والحنان والرعاية، في كل صغيرة وكبيرة من أمور المؤمنين؛ فهو يتعهدهم دائماً ببيان الوسائل التي يستطيعون من خلالها الانفتاح على الآفاق الواسعة للحياة، في كل ما تحمله من عناصر الخير والصلاح."
 النهضة كمشروع علمي واعٍ

في ضوء هذا الفهم المتكامل، تصبح النهضة مشروعاً علمياً واعياً، يجمع بين الإيمان والعمل، بين فهم السنن وتطبيقها، بين تجنب أسباب السقوط والأخذ بأسباب النهوض. وهكذا يتحقق الوعد الإلهي بالبيان والهداية، ويسير الناهض على بصيرة في طريق الإصلاح والإعمار، متسلحاً بفهم عميق للسنن الإلهية وكيفية تسخيرها في خدمة مشروع النهضة والإصلاح.




كتابة: حسان الحميني

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.