في آية عميقة من سورة السجدة، يكشف القرآن الكريم عن منهج إلهي في بناء الأمم والحضارات: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"[24].
إنها معادلة روحية عميقة تربط بين الهداية والصبر، وتضع أسس النهضة الحقيقية. فالهداية ليست مجرد إرشاد إلى الصراط المستقيم فحسب، بل هداية إلى متطلبات الصراط المستقيم من وعي بالسنن وفقهها، والتمكن من تسخيرها غاية الإحسان، إنها منظومة متكاملة من الفهم والتفاعل مع سنن الكون والتغيير، وتحديد اتجاه البوصلة للإخلاص والصواب،
الهداية في جوهرها عملية متجددة، تتطلب وعيًا عميقًا بمتغيرات الزمان والمكان. فهي ليست ترديدًا جامدًا للنصوص، بل تجديدًا مستمرًا لفهمها ومقاصدها. إنها القدرة على استيعاب التحديات، وإيجاد المخارج الإبداعية التي تحافظ على روح المبادئ.
والصبر - بشقيه: الصبر على المصاعب، والصبر عن الانحرافات - يصبح جوهر هذه الهداية. فليس الصبر سلبية أو استسلامًا، بل هو قوة داخلية تمكن الإنسان من تجاوز العقبات وتجديد رؤيته.
في مراحل النهضة المختلفة - من مرحلة المطالبة إلى التمكين - يتجلى عمق هذه المعادلة. فالثائر الذي يسعى للتغيير يحتاج إلى صبر مختلف عن المسؤول الذي يتولى زمام الأمور. وفي كلتا الحالتين، تظل الهداية بأمر الله هي البوصلة.
والجدير بالانتباه أن الآية تقيّد الهداية بـ "بأمرنا"، فتؤكد أن مصدر الهداية الحقيقي هو الأمر الإلهي، لا الأهواء الشخصية أو التقاليد البالية. إنها دعوة للتحرر من كل ما يعيق الرؤية الصافية.
المتأمل في صيغة الفعل المضارع "يهدون" و"يوقنون" يدرك عمق الاستمرارية. فالهداية ليست حالة مؤقتة، بل مسار متجدد يواجه في كل لحظة تحديات جديدة. القائد الحقيقي هو من يهب لمواجهة كل مشكلة مستعينًا بقوة اليقين والاستقامة.
النهضة الحقيقية إذن تتطلب:
- فهمًا عميقًا للمتغيرات
- مرونة روحية
- ثباتًا على المبادئ
- قدرة على التجديد
إنها معركة داخلية قبل أن تكون خارجية. معركة تحتاج إلى صبر على التحديات، وصبر عن الانحرافات، وحزم مواجهتها، بكونها العدو الجديد الذي يحبط مجهود القادة الجدد،
وختامًا، تظل الهداية رحلة مستمرة، والصبر رفيقها الأمين. رحلة تبدأ بالذات وتمتد لتشمل الأمة، رحلة من التحرر الداخلي إلى التغيير الشامل.
كتب حسان الحميني