استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

الوساطة.. مفهومها وجذورها ومعالجتها

الوساطة لغةً أصلها التوسط بين أمرين أتخذا طرفين متباعدين.

وفي العرف القبلي، الوساطة تطلق على مجموعة من العقال او المشائخ أو اصحاب المكانة حين يتدخلون بين طرفين على خصام، واستغلال مكانتهم بالتأثير على أحد الأطراف لحمله على التنازل للطرف الثاني بما يسمح بحل الخلاف.

وتعتبر الوساطة بهذا الشكل عملاً مشروعاً ومرغّب فيه، فمن الخلق الرفيع استعمال السلطة والمكانة للإصلاح بين الناس، ولهذا تحظى بتقدير واستحسان اجتماعي.

أما في العرف الإداري للدولة فيمكن تعريفها بأنها قيام أحد الموظفين من ذوي المكانة والسلطة باستغلال نفوذه وصلاحياته لمنح امتياز لأحد الأشخاص على بقية منافسيه لوجود قرابة أو علاقة بينهما، وذلك بالتجاوز والمخالفة للنظم واللوائح الإدارية.

والوساطة بهذا المعنى من أشد انواع الفساد الإداري فتكاً وتخريباً لمؤسسات الدولة.

فما الذي جرى لتتحول الوساطة من ذلك السلوك العرفي القبلي الرفيع الى سلوك ممقوت وبالغ السوء في الأداء الإداري للدولة؟

لو سلطنا بعض النظرات التحليلية، نلاحظ بتأمّل اسباب اختلاف الصورة النمطية للوساطة في الجهاز الإداري للدولة عن تلك الصورة للوساطة في التنظيمات القبلية، فنلاحظ أن الوساطة ذات الأصل العرفي القبلي تمتلك زخماً كبيراً من الإحترام والتقدير لدرجة أن توجه تصرفات وأفعال افراد المجتمع لتكون أكثر انجذاباً لمساعدة بعضهم واستعمال السلطات والإمكانيات لتذليل الصعاب فيما بينهم، ويعتبر هذا من الشيم الحميدة لدى افراد المجتمع ذوي القرابة والعصبة القبلية. والتنكر لهذه القرابات والإنتماءات القبلية وعدم منحها امتيازاً، يعتبر تنكراً للعرف والسلف والقيم الإجتماعية القبلية العليا. فبلا تماسك وتعاون أفراد المجتمع الواحد في فرع قبلي او قبيلة معينة في مواجهة التحديات الخارجية يواجه المجتمع خطرا وجودياً في البقاء، ولهذا تنشأ اللحم والتكتلات والقرابات التي تحفظ المجتمع في مواجهة المخاطر الخارجية. وهذه من خصائص المجتمعات القبلية التي تعيش في مناطق جغرافية وعرة مع صعوبة الحياة فيها. كالجغرافيا الجبلية لليمن الشمالي.
وكل ذلك انغرس في الشخصية القبلية اليمنية على مدى قرون وصار جزءًا من مكوناتها الذاتية، بعيداً عن الدولة المركزية والتنظيمات الإدارية الحديثة.

وحين تم استيراد الدولة الحديثة، ذات النهج الإداري القائم على الكفاءة والتعاقدية، واحلاله في المجتمع اليمني الذي لم يعهد لهذا مثيلاً في تجربته التاريخية، انتقل افراد المجتمع والقبيلة الواحدة للعمل في الدولة، ومعهم خلفيتهم الإجتماعية وشخصيتهم القبلية والأهم من كل ذلك الأخلاق والقيم القبلية، وبدلاً من استيراد النظام الإداري الحديث مع الأخلاق الإدارية الحديثة تم استيراد النظام كجهاز اداري هيكلي تنظيمي مجرد واحلال الكادر اليمني في اركان هذا الجهاز باخلاقهم وقيمهم القبلية، فأتت الوساطة ذات الأصل المرغوب قبلياً الى الجهاز الإداري في الدولة، وهنا ظهرت الوساطة كالفأر الذي يخرم سد الجهاز الإداري ومؤسسات الدولة وأدى الى انهيارها وفشلها المستمر إلّا في حالات استثنائية. والسبب في ذلك أن الأجهزة الإدارية الحديثة مصممة لتتناسب مع قيم التعاقد والتنافس الرأسمالية التي انبعثت في العصور الحديثة في أوروبا وأمريكا، والتي تقف بالتضاد مع قيم التعاون والتكاتف القبلية.
وهنا نفهم أن مشكلة الوساطة عميقة ومتجذرة في الذات اليمنية القبلية، وأن المسألة تتعلق بأن قيم التعاون والتكافل القبلية في صراع مع قيم التعاقد والتنافس الرأسمالية، ولا يكفي لنزع القيم القبلية المتجذرة في الذات اليمنية مجرد دخول المدرسة والحصول على شهادة جامعية من جامعة حديثة، إذ يبقى الإنتماء القبلي أقوى أثراً وأكثر هيمنة من قيم الرأسمالية ذات الأصول الغربية.

ولحل هذه المشكلة - كما أحسب والله أعلم - هو في القيم الإسلامية التي يمكن اعتبارها البديل الوحيد للأخلاق الرأسمالية الذي يملك القدرة على نسخ وتخفيف أثر الأخلاق والقيم القبلية على الأداء الوظيفي. وذلك أن القيم الإسلامية مألوفة للمجتمع اليمني وسهل تعلمها وتبنيها وتربية الموظفين عليها. لكن تظهر مشكلتين في هذا الحل البديل، الأولى أن الجهاز الإداري للدولة مصمم وفقاً للقيم الرأسمالية التعاقدية، بينما القيم الإسلامية تختلف في أصول تلك القيم رغم عدم الإختلاف الكبير في منهج الأداء والتنظيم العملي، وهذا يظهر أثره في قصور فاعلية القيم الدينية الإسلامية عن مواكبة التوقعات في أدائها الإداري في اجهزة الدولة، مما قد يسمح بظهور بعض أعراض الأمراض الإدارية كالوساطة والرشوة والفساد ومخالفة النظم واللوائح والقرارات، وإن كان بشكل أخف بكثير من الأخلاق القبلية. وتوضيح وشرح ذلك يطول.
والمشكلة الثانية أن مصدر تعبئة القيم الإسلامية والتربية عليها أخذ تجربة غير جيدة خلال السنوات الماضية في الواقع السياسي اليمني، وجاءت على شكل تحشيد وتجنيد الأفراد لخدمة تنظيمات سياسية لها أجندتها الخاصة التي قد لا تتماهى مع المصالح الإجتماعية الكلية، فرغم الأمل الذي تشكله القيم الإسلامية كحل لمعالجة امراض الجهاز الإداري إلّا أن الوصول إليها وتحقيقها مسألة لاتزال محل نظر.

وخلاصة القول، ان الوساطة قيمة إجتماعية عليا في النظام القبلي، وقيمة إجتماعية مفسدة في النظام الإداري للدولة، وأن أصل المشكلة عميق ومتجذر في الذات القبلية اليمنية وليست مجرد خلق سيء وشاذ لدى بعض الوظفين، وأن هناك امل لمعالجتها عبر إحلال القيم الإسلامية محل القيم القبلية كبديل للقيم الرأسمالية التي يستحيل تربية المجتمع اليمني عليها في الظروف الحالية. وذلك الحل لايزال يحتاج نظر وفكر وتجربة.


والله أعلم.
🖊محمد ابراهيم حاضر

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.