استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

دور الإعتصام بحبل الله في نهضة الشعوب (الآية 103 من سورة آل عمران : السياق والدلالات)



(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اِ۬للَّهِ جَمِيعاٗ وَلَا تَفَرَّقُواْۖ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اَ۬للَّهِ عَلَيْكُمُۥٓ إِذْ كُنتُمُۥٓ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰناٗۖ وَكُنتُمْ عَلَيٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اَ۬لنّ۪ارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۖ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اُ۬للَّهُ لَكُمُۥٓ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَۖ) (103)،

مقدمة

تمثل الآية 103 من سورة آل عمران منعطفاً مهماً في البناء المنهجي للأمة الإسلامية، حيث تؤسس لمفهوم الوحدة والقوة من خلال الاعتصام بكتاب الله. وتأتي هذه الآية في سياق متكامل يبدأ بالتقوى وينتهي بتأسيس الأمة الخيرية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.

السياق القرآني للآية
تندرج الآية في سياق متدرج يشكل منهجاً متكاملاً للنهضة والإصلاح :

الآية السابقة
تبدأ بالأمر بالتقوى حق تقاته، مؤسسة للبعد الفردي في عملية الإصلاح. يقول الإمام البقاعي: "لما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم -بعد أن أوقفتهم التقوى- على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات"

الآية محل الدراسة
تنتقل إلى البعد الجماعي من خلال الأمر بالاعتصام. يقول ابن عطية: "قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم."

الآية اللاحقة
تتوج المنهج بتأسيس الأمة الخيرية التي تحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 تحليل مفهوم الاعتصام وأبعاده

 البعد اللغوي والاشتقاقي
يقدم محمد حسن جبل في معجمه الاشتقاقي تحليلاً دقيقاً لمفهوم الاعتصام: "ومنه 'عَصَمه (ضرب): مَنَعَه ووَقَاه' (كأنما أحاطه بطبقة تحفظه أو أمسكه شديدًا أي حفظه)... استَمْسِكوا به بقوة تُمنَعُوا."
 البعد البلاغي
يكشف الزمخشري عن الأبعاد البلاغية للاعتصام بقوله: "يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد"

 البعد النفسي والتربوي
يقدم أبو حامد الغزالي فهماً عميقاً للبعد النفسي في عملية التأليف بين القلوب: "المراد بالألفة: نزع الغوائل من الصدور، وهي الأسباب المثيرة للفتن، المحركة للخصومات."

 دلالات "حبل الله" ومعانيه
يقدم ابن العربي تحليلاً شاملاً لمفهوم "الحبل" بقوله: "الْحَبْل: لفظٌ لغوي يَنْطلق على معانٍ كثيرة؛ أعظمها السبَبُ الواصل بين شيئين." ويفصل ابن عطية هذا المعنى بقوله: "و «الحبل» في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم، ونسبة بينهما"

البعد السنني في مفهوم "الحبل" وعلاقته بنهضة المجتمعات

يمثل قول ابن العربي "الْحَبْل: لفظٌ لغوي يَنْطلق على معانٍ كثيرة؛ أعظمها السبَبُ الواصل بين شيئين" مفتاحاً منهجياً لفهم السنن الإلهية في نهضة المجتمعات. فالحبل في دلالته السننية يتجاوز المعنى المادي المباشر إلى معنىً أعمق يؤسس لفهم حركة المجتمعات وقوانين نهضتها. إن اختيار لفظ "الحبل" بما يحمله من معنى الوصل والربط يكشف عن سنة إلهية في بناء المجتمعات، حيث لا تتحقق النهضة إلا باستمرار الوصل بين الأمة ومصادر قوتها.

يتجلى البعد السنني للحبل في ثلاثة مستويات متكاملة تشكل معاً منظومة النهضة المجتمعية. فعلى المستوى العمودي، يمثل الحبل الوصل بين الأمة وربها، وهو وصل عقدي وإيماني يؤسس للبعد الروحي في النهضة. كما يمثل الوصل بين الأمة ومصدر هدايتها المتمثل في القرآن والسنة، وهو وصل منهجي يؤسس للبعد الفكري والتشريعي. وأخيراً، يمثل الوصل بين القيادة والقاعدة في المجتمع، وهو وصل تنظيمي يؤسس للبعد الاجتماعي والسياسي.
أما على المستوى الأفقي، فيتجلى البعد السنني للحبل في شبكة العلاقات المجتمعية التي تربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض. هذا الترابط الأفقي لا يقل أهمية عن الترابط العمودي، إذ يشكل النسيج الاجتماعي الذي تقوم عليه النهضة. ويمتد هذا الترابط ليشمل المؤسسات المجتمعية في تكاملها وتناسقها، كما يمتد عبر الزمن ليربط بين الأجيال في تواصل حضاري مستمر، نتذكر شبكة العلاقات الاجتماعية عند مالك بن نبي رحمه الله.

إن فهم هذا البعد السنني للحبل يكشف عن معوقات النهضة في واقعنا المعاصر. فحين يضعف الوصل بين الأمة ومصادر قوتها، أو حين ينقطع التواصل بين مكونات المجتمع، أو حين يغيب التكامل بين المؤسسات، تتعثر مسيرة النهضة وتتراجع الأمة. هذا الفهم يقودنا إلى إدراك أن تجديد النهضة يتطلب تجديد الوصل على كافة المستويات.

ولعل من أهم الدروس المستفادة من هذا التحليل السنني أن النهضة ليست حدثاً عابراً أو طفرة مؤقتة، بل هي عملية مستمرة تتطلب استمرار الوصل وديمومة الترابط. فكما أن الحبل يمثل وسيلة دائمة للوصل، فإن النهضة تتطلب جهداً مستمراً في الحفاظ على الروابط وتقويتها وتجديدها.

تتجلى أهمية هذا الفهم السنني في تحديد آليات العمل النهضوي المعاصر. فعلى المستوى الفردي، يتطلب الأمر تقوية الصلة بالله والقرآن، وتطوير مهارات التواصل المجتمعي، وتعزيز الانتماء الحضاري. وعلى المستوى المجتمعي، يتطلب بناء مؤسسات قادرة على تحقيق التكامل والترابط، وتطوير شبكات التواصل الاجتماعي، وتعزيز التعاون بين مكونات المجتمع.

إن هذا الفهم السنني لمفهوم "الحبل" يقدم رؤية متكاملة لعملية النهضة، تجمع بين البعد الروحي والاجتماعي والحضاري. وهي رؤية تؤكد أن النهضة الحقيقية لا تتحقق إلا بالجمع بين قوة الوصل بالله وقوة الترابط المجتمعي.

 المنهج القرآني في بناء الوحدة

يتميز المنهج القرآني في بناء الوحدة بخاصية التدرج المنهجي المحكم، حيث يبدأ من الفرد وينتهي بالأمة في تسلسل منطقي دقيق.
 فالمنطلق الأول في هذا المنهج هو بناء الفرد من خلال التقوى، وهي علاقة خاصة بين العبد وربه تؤسس للبناء النفسي والروحي السليم. وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام البقاعي في قوله: "لما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم -بعد أن أوقفتهم التقوى- على الأصل لجميع الخيرات." فالتقوى هي المرحلة التأسيسية التي لا غنى عنها في بناء الوحدة.

ثم ينتقل المنهج القرآني إلى المرحلة الثانية وهي البناء الجماعي من خلال الاعتصام. وهنا يتجلى البعد الاجتماعي في عملية البناء، حيث يتحول الأفراد المتقون إلى جماعة متماسكة من خلال اعتصامهم المشترك بحبل الله. وقد بين ابن عطية هذا المعنى بقوله: "ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم." فالاعتصام يجمع بين صلاح الدنيا والآخرة، وبين البعد الفردي والجماعي.

أما المرحلة الثالثة، فهي البناء الحضاري المتمثل في تشكيل الأمة الخيرية التي تحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه المرحلة تمثل الثمرة النهائية للمراحل السابقة، حيث تتحول الجماعة المعتصمة إلى أمة فاعلة في التاريخ، تحمل رسالة إصلاحية للبشرية جمعاء.

وتتميز هذه المراحل بتكاملها وترابطها، فكل مرحلة تؤسس لما بعدها وتبني عليها. فالتقوى تؤسس للاعتصام، والاعتصام يؤسس للشهود الحضاري. وقد أشار الإمام الغزالي إلى عمق هذا الترابط في حديثه عن الألفة حين قال: "المراد بالألفة: نزع الغوائل من الصدور، وهي الأسباب المثيرة للفتن." فالوحدة الحقيقية تبدأ بتنقية القلوب وتنتهي بالفعل الحضاري.

كما يتميز هذا المنهج بتكامل أبعاده، فهو يجمع بين البعد الروحي المتمثل في صلاح الآخرة، والبعد المادي المتمثل في صلاح الدنيا، والبعد الحضاري المتمثل في القوة والنماء. وقد أشار الزمخشري إلى هذا التكامل في تحليله لمفهوم الاعتصام حين شبهه بالحبل الوثيق الذي يجمع بين العلو والأمان، فهو يمكن المتمسك به من الارتفاع مع ضمان السلامة.

إن هذا المنهج القرآني في بناء الوحدة يقدم نموذجاً فريداً في التغيير الاجتماعي، يجمع بين عمق التأسيس وشمول البناء وسمو الغاية. وهو منهج يصلح لكل زمان ومكان، لأنه يراعي الفطرة الإنسانية ويستجيب لحاجات المجتمع ويحقق غايات الاستخلاف، وشروط النهضة.

نخلص في الختام أن الآية 103  من سورة آل عمران تؤسس لمنهج متكامل في النهضة والإصلاح، يجمع بين البعد الفردي والجماعي والحضاري. وتكشف التحليلات المتنوعة للمفسرين عن عمق هذا المنهج وشموله، مؤكدة أن النهضة الحقيقية تتطلب الجمع بين التزكية الروحية والقوة المادية والشهود الحضاري.





كتب حسان الحميني.
والله الموفق

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.