في ركنٍ هادئٍ من المكتبة، جلست رباب على مقعد مجاور للنافذة، وقد شرعت في القراءة بتركيزٍ شديدٍ في كتاب "التصوير الفني في القرآن الكريم" لسيد قطب. رفعت عينيها عن الكتاب، ثم تنهدت وكأنها أرادت أن تبوح بما يجيش في صدرها.
- "السلام عليكَ معلمي، أحاول تلمُّس مواطن الوجدان في القرآن وتسليط الضوء عليها. في كتاب سيد قطب، ذكر الحسَّ كمدخلٍ لاستثارة وجدان المسلم، أي التفاعل الحسي مع آيات القرآن التي تتناول موضوعاتٍ مثل الطبيعة الصامتة، نماذج إنسانية، حالات نفسية، قصص، أمثال... وغير ذلك."
▪حرك معلمها رأسه بتفكيرٍ عميق، ثم رد بصوتٍ هادئٍ، كما لو كان يزن الكلمات قبل أن ينطق بها.
- "يَرَى سيد قطب أن تخيُّل المشاهد المذكورة في القرآن وتجسيدها في الذهن يُحرِّك الوجدان ويستثيره، فتتفتح البصيرة ويتفاعل العقل معها ويصل المعنى. ولكن، السؤال الأهم هو: كيف نحدد تعريف الوجدان؟ هل هو ذاته القلب الذي يعقل الوارد في القرآن؟"
▪تأملتها رباب قليلاً، ثم قالت بصوتٍ منخفض، وكأنها تتساءل عن أمرٍ لم تجد له إجابةً واضحة:
- "لم يُعرَف أحدٌ على وجه اليقين معنى القلب. لم يستطع أحد التفريق بين العقل والقلب والفؤاد واللب. كنت أفكر في هذا السؤال كثيراً، ولكن لم أتمكن من إيجاد جوابٍ شافٍ."
▪أجابها المعلم بهدوء، وكأنما يضع النقاط على الحروف.
- "صحيح. ولكن ما رأيكِ في أن هناك جهازًا موازنًا آخر للعقل يتفاعل مع الأحداث بطريقةٍ مختلفة عن التحليل المنطقي؟ ربما يكون هو الوجدان."
▪تأملت رباب في هذه الفكرة، وابتسمت قليلاً، ثم تابعت بفضولٍ أكبر:
- "وما هو هذا الجهاز الذي يحمل التكليف؟ بل من أين صدر حكم تعطيل العقل؟ هل هو من العقل نفسه، أم من جهازٍ آخر؟"
▪أجاب المعلم بشرحٍ أعمق، وكان حديثه أشبه بدائرةٍ مغلقةٍ تفضي إلى المزيد من التساؤلات:
- "هذه المقولات والنقولات سببها عدم التمييز بين منطقتين. هناك منطقةٌ أولى من عمل العقل يتم الخطاب بها، وهناك منطقةٌ يسلم العقل أيضًا أنها ممكنةٌ ولكن لا يمتلك أدواتٍ لفحصها. هذه هي منطقة العبور من الظن إلى اليقين."
▪عادت رباب إلى تساؤلاتها، وعينها تتأمل الأفق كما لو كانت تبحث عن إجابةٍ في كلمات المعلم.
- "إذن، عرِّف لي الوجدان؟"
▪ابتسم المعلم ابتسامةً هادئة، وأجاب بصوتٍ عميقٍ:
- "العقل يسلم بأن الكون عظيمٌ، وأن وراءه خالقٌ عظيمٌ. ثم يتفكر في دعوى الرسول، وفي معجزته. ثم تأتي آياتٌ تصف الغيب في هذا الكتاب الذي سلم بأنه من الخالق. فيسلم بها، ويرى العالم ممتدًا في عالمين، هما الشهود والغيب. وكلما زادت الذائقة الفنية عند الإنسان المتوازن نفسيًا، كلما كان تفاعله مع الوجود أفضل. لأن الفن هو ابن الدهشة وانفتاح الخيال."
▪تنهدت رباب، وهي تحاول أن تستوعب ما قاله المعلم، ثم سألته:
- "ولكن لماذا جعل الله تعالى آيات القرآن ذا جرسٍ موسيقيٍّ ساحر؟ وضمَّن المعاني الكثير من المشاهد التصويرية التي تستثير خيال القارئ؟"
▪أجابها المعلم وكأن السؤال كان قد فكر فيه مسبقًا:
- "خلق التأثير النفسي يمارسه البشر عبر الموسيقى واللحن. ولا يوجد دينٌ إلا وله ترانيمه. لكن لو قال البوذي والمسيحي واليهودي والسيخي 'أنا متأثر نفسيًا بترانيمي وكتاباتهم'، فكيف سنحاكم مقولاتهم؟ هل عن طريق الحس أم العقل؟"
▪تجيب رباب بثقة:
- "بالعقل طبعًا، ولكن سيكون حكمنا ناقصًا، لأننا حكمنا على تأثرهم بترانيهم وكتاباتهم بمنطقنا التحليلي، وهو عاجزٌ عن فهم شعورهم تمامًا. نحن لم نتفاعل مع ترانيهم بنفس المشاعر."
▪أجاب المعلم في هدوءٍ عميقٍ:
- "طيب، اجلسي في معبدٍ واستشعري موسيقاهم، وبناءً على ذلك آمني بمعتقداتهم. هل يصح هذا؟"
▪رباب هزت رأسها وقالت بحزمٍ:
- "لا يصح بالطبع. ربما أعيش حالةً روحيةً معينة، ولكن لن ترقى لمستوى تأثيرٍ يجعلني أغير معتقدي."
▪أضاف المعلم بصوتٍ أكثر عمقًا:
- "إذن المعتقد أصله عقلي، ولكنه يرتبط عبر الخلايا العصبية بمستثيراتٍ هرمونيةٍ نسميها العاطفة أو الوجدان."
▪رباب تبتسم، ثم تفكر في ما قاله المعلم وترد بتواضعٍ:
- "إذن الوجدان هو آليةٌ معينةٌ يتفاعل فيها عقل الإنسان مع الوجود، مدخلها الحواس وعملياتها الخيال ومخرجها الشعور. حاولت صياغة معادلةٍ تبسط التعريف: الوجدان = مدخلات (حواس) + عمليات (خيال) + مخرجات (مشاعر). تزداد حساسية الوجدان تجاه الجمال والخير والحق كلما كانت المدخلات أجمل، وعملية التخيل أقوى، والمشاعر أرقى."
▪أجاب المعلم بإعجابٍ:
- "جيدٌ، وأضيف: الإنسان = عقل (مسرح الأفكار) + وجدان (مشاعر اتجاه الأفكار)."
تواصل الحوار بينهما، وبدأت رباب تكتشف معالم جديدة في مفاهيم الوجدان والوجود.
كتابة: م. رباب قاسمو