في قلب مدريد، وبين جدران متحف برادو العتيقة، حيث تتناثر عبر قاعاته لوحات فنية مذهلة تروي تاريخ الفن الإسباني والعالمي، كان اللقاء بين رباب والمعلم. المكان يعج بالزوار الذين يتنقلون بين الأعمال الفنية الكلاسيكية، ولكن في زاوية هادئة من المتحف، كان الحوار بينهما يتخذ منحى فلسفيًا مختلفًا..
رباب، وهي واقفة أمام لوحة "وصيفات الشرف" تحفة الفنان الإسباني دييغو فيلاسكيز. لوحة ضخمة، يبلغ حجمها ما يزيد عن ثلاثة أمتار إلى أكثر من مترين ونصف، تتأمل الوضعيات الغريبة للوصيفات، تتراجع قليلا وتستدير ناحية معلمها وتقول:
عجيبة هي عقول الفنانين. هناك فنان سوري أعشق رسوماته. وصف نفسه مرة بأنه 'أهبل وعظيم'. يعيش مع كلبته في منزل منعزل مطل على بحيرة، صريح لأبعد الحدود. كتاباته غير مفهومة، وردوده فظة قليلاً. وأتساءل، هل هناك رابط بين الغرابة والإبداع؟ "
يهز المعلم رأسه موافقا، ويعقب :
"الأمراض النفسية في أحيان كثيرة تصاحب الموهبة، وتظهر في الشكل والتصرف. كما في هذه اللوحة هنا، نجد في هذا العمل الفني جانبًا من اللامعقولية، والتركيز على تفاصيل قد لا نراها في الحياة اليومية. المبدعون غالبًا ما يبتعدون عن التوازن"
أضافت رباب:
"وكأن الإبداع وليد عدم الاتزان. الإنسان المتوازن يكون باهتًا وعاديًا بدرجة ما، عكس المبدع. هل سمعت ب "متلازمة أسبرجر"، مرض العباقرة. أصحابها صريحون لدرجة الفظاظة، لكنهم مبدعون في مجالات قد تصل حد العبقرية، بحيث يفوقون قدرة الناس العاديين "
المعلم، وهو يستدير متابعا سيره باتجاه لوحة أخرى:
"صحيح. كل من أعرفهم من المبدعين، فيهم صفة عدم التوازن. يظهر أن العقلانية تقود إلى تقديس النمط، بينما الإبداع هو ميل لكسر النمط ".
تتبعه بسرعة وتقف أمام اللوحة التي يتأملها:
"نحتاج المبدعين ليكسروا النمط، ليحركوا المياه الراكدة، ويبعثوا الحياة في أوصال العقلانيين. هذه اللوحة مثال على ذلك، انظر كيف أن الفنان تمرد على الصور التقليدية للملوك، ليُظهر الحقيقة كما هي"
يهز رأسه موافقا ويتابع:
"هكذا ظهر العصر الرومانسي كثورة على عصر التنوير. كان السؤال الملح : أين عواطفي؟ "
تقاطعه رباب وتكمل عبارته :
"أعاد الرومانسيون للإنسان طاقته العاطفية وروحه المبدعة، وبدؤوا يُعيدون الألوان المفقودة إلى حياتهم. كان الفن الرومانسي محاولة للعودة إلى الإنسان كما هو: مليئًا بالعواطف والأحلام والصراعات الداخلية. قدّم الرومانسية ملاذًا من العقلانية، في القرن التاسع عشر".
المعلم، وهو يشير إلى لوحة أخرى، يتابع:
"هذا صحيح، العقل لم يجب على كل الأسئلة، فبعد أن قدمت حقبة التنوير أربعة وعود للإنسان: أن العقل سيحل مشكلات الفقر والجهل والمرض والحرب. جاءت الحربين العالميتين الأولى والثانية وجلبت الدمار إلى العالم ، فبرزت موجة شك في تلك الوعود، وجاء دور الفلاسفة الشكاك مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا" .
تتوقف عن تأمل اللوحة وتستدير نحو معلمها بحماس وتسأل:
"مدهش تفاعل الانسان مع واقعه، وقدرة عقله على تأطير الواقع المتغير بفلسفة مختلفة كل مرة، لم أفهم تمامًا فلسفة جاك دريدا التي تريد أن تفكك النص، رغم أنني قرأت عنها مرارًا ."
المعلم، وهو يبتسم معجبًا بفضولها الذي لا ينتهي، قائلا:
"دريدا" فكرته تهشيم النص بمعنى انه لا يوجد معنى مستقر في النص عند تحليله. بالمثال يتضح المقال : عندما يقول النص ( كانت ناصعة البياض) فالنص لا يقول شيئا الا تعبيرًا عن انحياز ما، أما حقيقة الموضوع فهي غير واضحة. فما هي الدرجة اللونية التي سنقول عنها "بياض" ومتى سنقول "ناصع البياض" ومتى سيكون "ناصع ناصع البياض" كلها اشياء غير منضبطة ".
تهز رأسها، وتعقب بهدوء وكأنها تفكر بصوت مرتفع:
"إذن باعتبار أنه لا يوجد ضبط لدرجة البياض، فإن عبارة "كانت ناصعة البياض" ليست دقيقة تماما. ولا يمكن التعويل عليها لبناء حقائق حاسمة ونهائية"
المعلم مؤكدا:
"صحيح، لذلك هو يرى أن كل الحقائق العلمية ليست دقيقة لان لغتها تقبل الشك. نحن امام السيولة المطلقة للنص وللعالم فماذا تعني الاخلاق والاديان ومعارف الانسان. نحن دائما في حالة شك جذري".
تقاطعه رباب مستنكرة:
"مستحيل ماهذا العبث والجنون. ينتقد اللغة ثم يخاطب الناس بها لإيصال أفكاره. وهل نملك غير اللغة لنبني بها المعرفة !!. جاك دريدا يميز بين اللغة الأصلية ال"قبل منطقية" وبين اللغة التي شوهها المنطق وفرض قوانينه عليها. ماذا يقصد؟"
يجيب المعلم:
"هذه المقولة جزء من حملته. فالمنطق هو محاولة ضبط المعنى بقدر الوسع ومشروع دريدا هو العكس تدمير اي معنى".
ترفع حاجبيها بدهشة :
فلسفة غير منطقية. أتساءل كيف لاقت رواجًا بل وأصبحت فلسفة العصر.
يبتسم لدهشتها وكأنه مر بها سابقا:
"كل غريب من القول مسبوك في جدل مغري. وفي ضوء ان معظم الناس لا بعرفون نهايات القول ومآلاته، فادعاء القراءة لدريدا تصبح بذاتها مفخرة، وخاصة لمن لا يعرف طبيعة الفلسفة من جذورها".
تخفي اعجابها بتلك السخرية المبطنة، تتصنع الوقار وتردف:
طيب ما هي تداعيات هذه الفلسفة على الغرب. ألم تعبث بأفكارهم ؟
يجيب المعلم :
"لا شئ، فالغرب حسم أمره منذ فجر نهضته. دع الافكار تعمل، ثم حول احسن ما فيها لقيمة مضافة، والباقي دعه للاستهلاك العام سيفيد بشكل ما ولو في فتح احتمالات جديدة".
قالت بحذر، وهي تشعر بثقل التحديات التي طرحها الحديث:
"إذن، قد يكون ما نراه هنا في هذا المتحف، وكل هذه اللوحات، ليست مجرد فن وألوان، بل هي دعوات للتفكير المأزوم، ومحاولة لفهم هذا العالم الذي لم يعد يعترف بالثوابت".
ابتسم المعلم وهو ينظر إلى اللوحة الأخيرة، وبصوت هاديء قال:
"تمامًا. الفن، كالفلسفة، يعكس صراع الإنسان مع نفسه ومع العالم. هذه هي الحياة؛ تساؤلات لا تنتهي، وسعي مستمر للمعرفة. لا يوجد إجابة نهائية، وكل لوحة، مثل كل فكرة، هي مجرد محاولة لإضاءة جزء من الظلام الذي نعيشه. وفي النهاية، نبحث عن المعنى في كل زاوية، في كل لون، في كل فكرة".
رمى كلماته بهدوء دون أن يدري كم شمسا أضاء في سماء رباب، فلا شيء يبهجها كالحكمة :
"ياااه، هذا القول الحكيم، أجمل عندي من لوحات المتحف مجتمعة"
شكرته على وقته الثمين، ودعته، وانسلت من المتحف بهدوء، كما انسلت أشعة شمس المغيب من نوافذ المتحف ...
كتابة: م. رباب قاسمو