استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

العقود ودورها في النهضة المجتمعية - (قراءة في ضوء الآية الأولى من سورة المائدة)

مدخل تأسيسي

تشكل الآية الأولى من سورة المائدة (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِۖ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ اُ۬لَانْعَٰمِ إِلَّا مَا يُتْل۪يٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّے اِ۬لصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌۖ اِنَّ اَ۬للَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُۖ ) (1) منطلقاً تأسيسياً لفهم العلاقة الوثيقة بين العقود والنهضة المجتمعية. إذ تؤسس الآية لمنظومة متكاملة تبدأ بالإيمان، وتمر بالوفاء، وتتجسد في العقود المحكمة، لتصل بالمجتمع إلى مرحلة النهضة والتمكين.

الأبعاد الثلاثية للعقود

يقدم الراغب الأصفهاني، كما أورد رشيد رضا، تصوراً شمولياً للعقود بقوله: "العقود باعتبار المعقود والعاقد ثلاثة أضرب: عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر". يؤسس هذا التقسيم الثلاثي لفهم متكامل للعقود يشمل البعد الإيماني، والبعد الذاتي، والبعد الاجتماعي.

 العمق المفاهيمي للعقود

يعمق سيد قطب هذا الفهم بقوله: "افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة 'العقود' معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله.. وفي أولها عقد الإيمان بالله؛ ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته.. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود؛ وسائر الضوابط في الحياة."

 البعد المنهجي للعقود

يضيف ابن عاشور بعداً منهجياً في فهم الآية بقوله: "تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سَتَرد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالاً وتفصيلاً، ذكَّرهم بها لأنّ عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه. وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة: هذا ظهير كريم يُتقبل بالطاعة والامتثال. وذلك براعة استهلال".

 المرونة والشمول في مفهوم العقود

يؤكد التفسير الأمثل المرونة والشمول في مفهوم العقود: "ويعتقد جمع من الباحثين أنّ أنواع المعاملات والشركات والاتفاقيات الموجودة في عصرنا الحاضر، والتي لم يكن لها وجود في السابق، أو التي ستوجد بين العقلاء في المستقبل، والتي تقوم على أسس ومقاييس صحيحة تدخل ضمن هذه القاعدة".

 الجذر اللغوي ودلالاته العميقة

يكشف الراغب عن المعنى اللغوي العميق للعقد بقوله: "العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو: عقد البيع، والعهد، وغيرهما". ينتقل هذا المعنى المادي المحسوس إلى المعنوي ليؤسس لفهم متكامل للعقود ودورها في بناء المجتمع.

 شمولية العقود وارتباطها بالصلاح

يؤكد البقاعي شمولية العقود وارتباطها بالبر والصلاح بقوله: "أوفوا أي صدقوا ذلك بأن توفوا بالعقود أي العهود الموثقة المحكمة، وهي تعم جميع أحكامه سبحانه فيما أحل أو حرم أو ندب على سبيل الفرض أو غيره... حتى ما كان في الجاهلية من عقد يدعو إلى بر".

 أثر العقود في النهضة المجتمعية

يؤسس هذا الفهم المتكامل للعقود لنهضة مجتمعية حقيقية. فكلما كان العقد متيناً متماسكاً، قائماً على إيمان راسخ ووفاء صادق، كانت المجتمعات أكثر قدرة على الفعل والإنجاز. وبقدر التزام المجتمعات بهذه العقود المحكمة، تكون قادرة على النهوض والتقدم وتسجيل حضورها في التاريخ.

وفي الأخير وجب التنبيه :

أن النهضة الحقيقية ليست مجرد شعارات أو نظريات، بل هي بناء متين يقوم على أسس راسخة من الإيمان العميق، والوفاء الصادق، والعقود المحكمة. وهذا ما يجعل المجتمع قادراً على تحقيق غايته في الاستخلاف وعمارة الأرض.


كتابة: حسان الحميني

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.