استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

مفهوم الوسع (سلم للإحسان لا سقف للقعود)


كنت وعدت القراء سابقا بالتطرق إلى مفهوم الوسع، مقال اليوم وفاء بوعد قطعته على نفسي.
في ختام سورة البقرة، تأتي آية كريمة تحمل في طياتها كنزاً من المعاني والدلالات: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى عظمة هذه الخاتمة بقوله: "ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة، التي هي من كنز تحت عرشه. والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه. وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان، ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا..."

 الوسع : سلم متصاعد لا سقف جامد

قد يظن البعض أن هذه الآية الكريمة تمثل سقفاً للتكليف يتخذه المقصرون مبرراً لقعودهم، متعللين بمحدودية وسعهم وضيق طاقتهم. لكن الحقيقة أن الوسع في مفهومه القرآني يمثل سلماً متصاعداً نحو مقام الإحسان، لا سقفاً جامداً يقف عنده المؤمن.

وفي هذا المعنى يأتي قول سيد قطب رحمه الله موضحاً البعد التربوي العميق في الآية: "وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه."

مراتب الوسع في طريق الإحسان

يتدرج المؤمن في مراتب الوسع، صاعداً من مجرد الامتثال إلى مقام الإحسان. فالمرتبة الأولى هي أداء التكليف بحده الأدنى، ثم الارتقاء إلى مرتبة الإتقان، فمرتبة المراقبة، وصولاً إلى أعلى المراتب حيث يؤدي المؤمن التكليف وكأنه يرى الله، محققاً بذلك مقام الإحسان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه".

 الوسع بين البخل والعجز

يقدم لنا الإمام القشيري رحمه الله معادلة دقيقة في فهم الوسع حين يقول: "ادخارُ المستطاع بُخْلٌ، والوقوفُ -عند العجز- عذر". فهو يضع المؤمن أمام مسؤولية أخلاقية وروحية في التعامل مع طاقاته وقدراته: فحبس القدرة عن العمل والعطاء نوع من البخل المذموم، بينما العجز الحقيقي - الذي يأتي بعد بذل الجهد لا قبله - عذر مقبول.

 النهوض المستمر: تنمية القدرات ورفع الطاقات
المؤمن الحق هو من يسير في طريق تنمية قدراته وطاقاته باستمرار. فكل تكليف يؤديه يكشف له عن طاقات كامنة، وكل ممارسة تفتح له آفاقاً جديدة من القدرة والعطاء. وهكذا يظل في حركة صعود مستمرة، كلما ارتقى في وسعه فتحت له آفاق جديدة من التكليف والعبودية، مصداقاً لقوله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".

الوسع تكليف ووعد

إن آية "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" ليست مجرد تخفيف عن النفس أو رخصة للتقاعس، بل هي في حقيقتها شحن للهمم وتحفيز للنفوس نحو آفاق أعلى من الأداء والعطاء. إنها تحمل في طياتها وعداً إلهياً بأن كل تكليف شرعي هو في حدود قدرة المؤمن، وتحمل في الوقت نفسه تكليفاً ضمنياً باستثمار هذه القدرة وتنميتها للوصول إلى أعلى مراتب العبودية.

فليست الآية عذراً للقاعدين، بل هي نداء للناهضين، وليست سقفاً للمقصرين، بل هي سلم للمحسنين. وهكذا يتجلى لنا أن الوسع في مفهومه القرآني هو طاقة متجددة ومتنامية، تدفع المؤمن دوماً نحو مدارج الكمال ومقامات الإحسان.






كتب حسان الحميني
والله الموفق.

Post a Comment

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.