استثمر في نفسك اليوم، واجعل التعلم عادة يومية. ابدأ الآن واجعل العلم رفيقك في رحلة النجاح. تابعنا على تيليجرام!

القبلة (بوصلة التوجه وحماية النهضة)



(سَيَقُولُ اُ۬لسُّفَهَآءُ مِنَ اَ۬لنَّاسِ مَا وَلّ۪يٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ اُ۬لتِے كَانُواْ عَلَيْهَاۖ قُل لِّلهِ اِ۬لْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُۖ يَهْدِے مَنْ يَّشَآءُ اِ۪لَيٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيم)[141]

تمثل قضية تحويل القبلة في القرآن الكريم منعطفاً مهماً في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث تجاوزت دلالاتها البعد الجغرافي البسيط إلى آفاق أعمق تتعلق بتشكيل الهوية وحماية البوصلة الحضارية للأمة. وقد جاء هذا التحول في سياق قرآني عميق يكشف عن أبعاده المتعددة.

السفه والهوى: عقبتان في طريق النهضة

تبدأ الآية بالإشارة إلى موقف المعترضين على تحويل القبلة بوصفهم بالسفهاء، وهو وصف دقيق يكشف عن طبيعة العقبات التي تواجه أي نهضة حضارية. فالسفه في اللغة يشير إلى خفة العقل وعدم الرشد، وارتباطه بالهوى في الآية يكشف عن تلازم خطير بين ضعف التفكير واتباع الأهواء الشخصية.

 الهداية : منظومة من الأسباب والنتائج

وفي هذا السياق، يقدم الشيخ السعدي رؤية عميقة في تفسير قوله تعالى "يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" حيث يقول: "ولما كان قوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والمطلق يحمل على المقيد، فإن الهداية والضلال، لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى". 
هذا الفهم العميق يكشف عن أن الهداية ليست عشوائية بل تخضع لسنن إلهية ثابتة.

 القبلة والهوية الحضارية

ويضيف سيد قطب بُعداً حضارياً عميقاً لقضية تحويل القبلة في تفسيره حيث يقول: "فأما المادة الأساسية لهذا الجزء، ولبقية السورة، فهي إعطاء الجماعة المسلمة خصائص الأمة المستخلفة، وشخصيتها المستقلة. المستقلة بقبلتها؛ وبشرائعها المصدقة لشرائع الديانات السماوية قبلها والمهيمنة عليها". ثم يربط هذا البُعد بالعمق التاريخي للتوحيد بقوله: "ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصا لله".

 البوصلة اليومية : تكامل الصلاة والحج

وضع الإسلام نظاماً متكاملاً لحماية هذه البوصلة الحضارية من الانحراف، يتمثل في:
- الصلاة: تذكير يومي خمس مرات بالتوجه الصحيح
- الحج: مراجعة سنوية شاملة للمسار والوجهة

 حقيقة التوجه: رؤية الماتريدي

ويختم الإمام الماتريدي بتوضيح جوهري لحقيقة التوجه في قوله: "قُلْ لِلّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ": والأمكنة كلها والنواحي؛ يأمر بالتوجه إلى أي ناحية شاء شرقا وغربا. فالطاعة له في الائتمار لأمره والقبول لدعائه لا للتوجه نحو المشرق أو نحو المغرب لهوى هووا وتمن تمنوا". هذا الفهم يؤكد أن القضية في جوهرها قضية عبودية وطاعة، وليست مجرد تفضيل جغرافي.

إن فهم قضية القبلة بهذا العمق يكشف عن أهميتها في بناء النهضة الحضارية وحمايتها. فهي ليست مجرد توجه جغرافي، بل هي بوصلة حضارية تحمي الأمة من الانحراف وراء السفه والهوى، وتربطها بأصول التوحيد الخالص، وتمنحها شخصيتها المستقلة المتميزة. وفي عصرنا الحاضر، تزداد الحاجة إلى هذا الفهم العميق لدور القبلة في توجيه البوصلة الحضارية للأمة وحمايتها من الانحراف.


كتابة: حسان الحميني

إرسال تعليق

أووپس!!
يبدو أن هناك خطأ ما في اتصالك بالإنترنت. يرجى الاتصال بالإنترنت وبدء التصفح مرة أخرى.
الموافقة على ملفات تعريف الارتباط
نحن نقدم ملفات تعريف الارتباط على هذا الموقع لتحليل حركة المرور وتذكر تفضيلاتك وتحسين تجربتك.